على الرغم من أن الداعية الإسلامي التركي بديع الزمان النورسي (1294–1279 هـ، 1877–1960م) قد طلق دنيا السياسة والدولة، ورابط على ثغور الحقائق القرآنية والإيمان الديني، في مواجهة المادية والزندقة والإلحاد، إلا أن سياسة الدولة العلمانية الأتاتوركية لم تتركه وشأنه، بل جعلت حياته سلسلة من النفي والتعذيب والسجن والمحاكمات.
ولقد تأمل الرجل حقيقة دوافع هذا الظلم الذي أوقعوه به وأسبابه، وكتب عن ذلك يقول:
"ما السبب في إصرارهم على اقتراف هذا الظلم في حقي؟ ولماذا بقيت معرضا على الدوام لهذا الظلم والتعذيب مع كوني بريئا ودون أي ذنب؟ ولماذا لم أستطع التخلص من هذه المصائب؟ ألم تكن هذه الأحوال مخالفة للعدالة الإلهية؟
لقد بحثت عن أجوبة لهذه الأسئلة خلال ربع قرن من الزمن، فلم أوفق في ذلك، ولكني الآن عرفت السبب الحقيقي في قيامهم بظلمي وتعذيبي. إن ذنبي هو اتخاذي خدماتي القرآنية وسيلة للترقي المعنوي والكمالات الروحية.. إن كل فرد له الحق في اكتساب المقامات التي يعشقها، وفي نيل السعادة الأخروية عن طريق الأعمال الصالحة، ومع هذا، فقد رأيت أنني أمنع (روحيا وقلبيا) من هذه الأحوال ومن سلوك هذا الطريق.
إن الزمن الحالي يحتاج إعطاء نوع من الدرس القرآني الذي لا يكون في خدمة أي غرض آخر، وذلك حتى يكون الدين بعيدا عن كونه وسيلة لأي غاية شخصية أو دنيوية أو أخروية، مادية كانت أو معنوية.
وإن الذين آذونا وعذبونا، قد ساعدوا على نشر الحقائق الإيمانية دون أن يدركوا تجليات أسرار القدر الإلهي، ووظيفتنا تجاه هؤلاء هي تمني الهداية لهم".
هكذا تحدث النورسي عن الرسالة التي نذر نفسه لها، منذ أن فرض مصطفى كمال أتاتورك (1881 - 1938م) العلمانية الملحدة المعادية للإسلام على الشعب التركي.
والذين لا يرون في الإسلام سوى "الدولة" و"السياسة" قد يرون النورسي مجرد "درويش"! لكنه كان الفقيه الذي فقه الواقع، وأدرك نوع التحديات التي تواجه الإسلام، فاعتصم بنور القرآن، وصاغه في "رسائل النور"، فحافظ على "قلوب" المسلمين، حتى جاء الوقت الذي صنعت فيه هذه "القلوب"، وكونت الأحزاب وخاضت غمار السياسة، وقبضت على مقاليد الدولة، لتكمل رسالة النورسي وتطهر مؤسسات الدولة (بالتدريج) من أدران المادية والزندقة والإلحاد.
لقد خاض الأتراك ملحمة تاريخية، لم يعرفها شعب آخر من شعوب الإسلام، وكأنما كان الغرب والدونمة والعلمانيون يعاقبون تركيا على تاريخها المجيد في خدمة الإسلام، وفي الفتوحات التي طاردت بها القوى التي احترفت تجييش الجيوش ضد دار الإسلام.
لكن ذكاء المصلحين الأتراك (وفي مقدمتهم بديع الزمان النورسي) والتضحيات التي قدموها في سبيل الإيمان الإسلامي، هي التي كان لها الفوز في هذه الملحمة التي تستحق الدراسة والتأمل والتفكير العميق.
أضف تعليقك