• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

شاعر مناضل في سجون الانقلاب... شرفني بكتابة مقدمة ديوانه الأول "الرقيم"... شاعر شاب... من شباب ثورتنا العظيمة، ثورة يناير ولا ثورة سواها.

لقائي الأول مع ديوان "الرقيم" كان في عام 2014، أرسل لي أحد أصدقاء الشاعر نسخة إلكترونية، طالبا مني أن أكتب عنه، وحكى لي كيف أن صاحب الرقيم الشاعر الشاب محمد فوزي سجين في معتقلات العسكر، وكيف أن هذا الديوان كُتِبَ كاملا في السجن.

تذكرت النونية ... أجمل ما كتب القرضاوي من شعر، وتداعت لذهني صور وخيالات تبدأ من أصحاب الكهف و"الرقيم" وتنتهي ولا تنتهي بمحمد فوزي. 

تأملت كيف كتبت على جدران سجون مصر قصائد، ثم كتبت فوقها قصائد أخرى، ثم أخرى... سلالات من الشعراء تكتب آهاتها على جدران السجون، شاعرا خلف شاعر، عهدا بعد عهد، ابتلاء يتلوه ابتلاء... قافلة طويلة في درب الحرية، لا أول لها... وآن لها أن تنتهي.

ولكن... هل يمكن أن تنتهي؟

أظن أن معركة الحق والباطل أزلية، حتى لو سقط حكم العسكر في مصر، سيظل صراع الحق والباطل قائما إلى يوم القيامة.

أتذكر "موبلي" شاعر جنوب إفريقيا العظيم، نكّل به النظام العنصري في جنوب إفريقيا تنكيلا لا مثيل له، حتى سقط النظام العنصري وحكم جنوب إفريقيا مجموعة من الرفاق ذوي البشرة السوداء، ولكن فيهم بعض الفسدة، فوقف لهم "موبلي" الشاعر العظيم، وقال كلمة الحق، ولم يقبل أن يهادن (جماعته) أو (حزبه) أو (قومه) أو (أصدقاءه) أو (شلته)... سمهم ما شئت!

لقد صدح بالحق، وقال للظالم يا ظالم، وللفاسد يا فاسد، فألقوة في السجن بتهمة مهينة، لفقوا له تهمة السطو المسلح على بنك!

في النهاية ظل "موبلي" شاعر جنوب إفريقيا العظيم، وظل شعب جنوب إفريقيا ينظر له كمشعل من مشاعل الحق، وما زال حتى اليوم يمارس واجبه في مواجهة الظلم حتى لو كان الظالم صديقا أو قريبا أو مواليا.

جدران السجون المصرية عليها آلاف القصائد، طبقات جيولوجية شعرية بعضها فوق بعض، خريطة زمنية فنية تشرح التاريخ السياسي الحقيقي لهذا الشعب الذي يتهمه المؤرخون بالخنوع، ويتهمه السياسيون بالجهل، ويتهمه بنو عمِّه بالتخلف، ويتهمه كثير من أبنائه المخلصين بعبادة البيادة!

لو كانت هذه التهم صحيحة فلماذا امتلأت سجون الظلمة بالمقاومين على مدار عشرات السنين؟

إذا كان هذا الشعب خانعا فكيف خرج محمد فوزي شاعر "الرقيم" ثائرا من رحم هذا الشعب الذليل؟

إذا كان هذا الشعب جثة هامدة كما يزعمون... فلماذا لا يفرج عن محمد فوزي؟ لماذا لا يطلقون سراحه حتى الآن هو وعشرات الآلاف من المعتقلين والمعتقلات؟

الحقيقة أن هذا الشعب فيه بذرة خير لا تموت، وهي بانتظار من يسقيها ويرعاها، وشاعر "الرقيم" وأمثاله من الأدباء الثوار هم خير من يقوم بهذه المهمة، لذلك لابد من سجنهم.

حين قرأت هذا الديوان وجدت تجربة شعرية شديدة الخصوصية والغرابة. تجربة تشبه الفراشة، ولكنها فراشة من نوع خاص!

تتغذى دودة القز على أوراق الشجر، ومن الواضح أن محمد فوزي قد تغذت تجربته على أدب أصيل، وآثار كبار الشعراء واضحة في الديوان، وسلامة اللغة وفصاحة البيان والقدرة على التقاط الفروق والمفارقات عالية عند الشاعر.

تتحول دودة القز إلى شرنقة تحيط نفسها بالحرير، وتعيش داخل هذه الشرنقة حتى وقت معلوم تخرج فيه هذه الدودة، تقطع خيوط الحرير بأجنحتها لتتحول فراشة زاهية ألوانها تسر الناظرين.

شرنقة الشاعر هي بيئته وتجربته الشعرية التي يعيش فيها بشكل طبيعي.

تجربة محمد فوزي وجيله من الشعراء غير طبيعية، فهي تبدو لي وكأنها شرنقة هاجمتها أنياب ذئب فتقطعت خيوط الحرير بفعل فاعل متوحش قبل أن تخرج الفراشة، وقبل أن تقوى الأجنحة على اقتحام الخيوط والطيران!

هذا الكائن الذي رأيته على الورق (دون أن ألقاه في عالم الواقع) غريب!

قاسٍ حنون، عميق سطحي، حكيم نزق، يجمع من متناقضات الحياة في عمر مبكر، ما يجعله مؤهلا لتعميق تجربة شعرية فريدة، لو سمحت الظروف الحياة بذلك.

محمد فوزي من مواليد دكرنس دقهلية، ولد - ياللعجب – في السادس من أكتوبر عام 1991!

وكأنه ولد في هذا اليوم ليتذكر كل عام في يوم ميلاده كم هو مزيف هذا العالم الذي جاء إليه.

محمد فوزي... تلك الفراشة التي خرجت من شرنقتها مبكرا حين اقتحمتها أنياب الذئب، يقول:

"كتبت أول كلمة في هذا النص تحت الأرض... في حبسخانة نيابة أمن الدولة العليا".

هذه تجربة هذا الجيل الثائر العظيم، مواليد عصر مبارك اللص العميل، ذلك العصر النجس الذي أخرج لنا جيشا فيه آلاف مثل عبد الفتاح "سيسي"، قياداته جلها مثله!

هذا الجيل رحمة من الله لمصر، وبه ستتحرر، وإذا ظننت أن هذا الجيل قد يئس فاقرأ لشاعر الرقيم قوله:

"يقولون أنَّا هنا حالمون
فدعهم يقولوا وكن كي نكون
إذا سُمِّي الحلم فينا جنون
فباسم جنونك قاومْ وقاومْ
ودعهم بعقل الخنوع يفرُّوا".

هذا الجيل الذي يقاوم حتى يستعصي على الهزيمة، ويتعلم من تجارب سابقيه، ومن تجاربه هو، فتراه يقفز على كل الصراعات السطحية، والمعارك الشخصية، والمكاسب الحزبية. إنه جيل يعلم جيدا جوهر المعركة.

يقول الشاعر في ديوان الرقيم (متحدثا عن مجتمع السجن):

"مجتمعنا ليس اشتراكيا
رغم كون بنيته التحتية
-المادية والنفسية- مشاعْ"

ويقول:

"مجتمعنا ليس ليبراليا
رغم الحرية التي لن تعرفها
سوى معنا
حرية العراة 
سواسية لا يخافون فقد ثياب أخرى"

ويقول:

"مُجتمعُنا
ليس سُلطدينيًّا ولا علمانيًّا
فذاكَ الشجارُ العتيقُ
بينَ مَن يظنونَ أنهم
أصابعُ اللهِ الطاهرةُ
وعِصيُّهُ الوحيدةُ
والآخرونَ محضُ خرافٍ للربِّ,
وبينَ من يظنّون أنَهم
حُماةُ ترسِ الحضارةِ الدوَّارِ
من أحجارِ دورِ العبادَةِ المُعيقةِ
ومن العقائدِ والقيَمِ والأخلاقِ
التي يَجِبُ وضعُها في المتاحفِ
لا القُلوبِ..
هذا الصراعُ الصبيانيُّ العتيقُ
انتهى".

لقد وصل هذا الجيل لقناعة طالما قلناها، وهي خلاصة معارك نصف قرن من التفاهة، لا طائل وراءها سوى تمكين المستبدين، خلاصة المعركة يقولها محمد فوزي:

"منذُ تأكَّدْنا أنَّ نفسَ الزنزانةِ
كُلَّ نهارٍ
تُصبحُ مسجدًا وجامعةً ومَلعْبًا
وكلَّ ليلٍ
يتنزَّلُ اللهُ فيها
ويُنْصِتُ -بلا مُحاباةٍ-
لكُلِّ مُتْعَبٍ التجأَ لبابِهِ.
اشتراكيًّا.. ليبراليًّا..
سُلطدينيًّا.. علمانيًّا..
"إنْ هيَ إلا أسماءٌ سمَّيتموها"
إن هِيَ إلا مُعلَّباتٌ فكريةٌ جاهزةٌ
يرهِنُ الناسُ عقولَهُم لشِرائِها
رغمَ كونِها مُنتهيةِ الصلاحيَةِ,
إن هيَ إلا أقنعةٌ وأزياءٌ تنكُّريةٌ
ونحنُ
في زيِّ السجنِ الموَّحد
اكتشفْنا جمالَ الوجوهِ الآدميةِ
إنْ هيَ إلا مِظَلّاتُ جُمودٍ
يظنُّ أصحابُها
أن ستمنعَ عن الأرضِ المطرَ
ونحنُ
تحتَ سقفِ الجُدرانِ الأربعةِ
عرفْنا بحقٍ نِعْمةَ المطر".

كلما تأملت في شعر محمد فوزي تخيلت كيف يمكن أن يكون لقائي الأول به..

هذا الشاب الذي يصغرني بعقدين من الزمان، ثم أنضجته التجارب دفعة واحدة، متى سيخرج؟ كيف سيكمل حياته؟ لا يدرك كثيرون ما يلاقيه المعتقل في عصر انقلاب يوليو 2013، بل هناك الكثير من الأخبار السيئة التي تطحن المسجون طحنا:

"عندي أخبارٌ سيئةٌ
 يؤسفُني أُعلِمُكَ
 بأنَّ القانونَ/ السيفَ
 على أعناقِ الكلِّ
 وَلَنْ يَعْتَرِفَ بِكَونِكَ يوسُفَ
 لِيَلِينَ لأحلامِكَ ورُؤاكْ
 حتى إن خَرُبَتْ كُلُّ خزائِنِهِمْ
 لن يُخْرِجَكَ الملكُ إليها
 لتصيرَ أمينا..
 ستظلُّ سجينا
 لن تَرْفَعَ أبويكَ إلى العرشِ
 ولن تؤوي لذراعيكَ أخاكْ
 وخطابُكَ
-سمِّهِ إن شِئتَ قميصَكَ-
 أيضًا لَن يخرُجَ..
 فلمَنْ تُرْسِلُهُ؟!
 بالأمسِ اعتقلوا اثنينَ
 بجُرمِ حيازةِ رائحتِكَ
 والشوقِ العمدِ إلى رؤيَاكْ
 بالأمسِ اعتقلوا اثنينَ
أخاكْ..
وأباك.."

نعم... لقد اعتقل هذا النظام أخاه وأباه!

وهكذا هي الحياة في هذا العهد !

لو استرسلت سأكتب الكثير والكثير، ولكني أعد القارئ بوقت يمزج بين المتعة والألم... متعة الكتابة... وألم الكاتب! 

وكما أعد قارئ الديوان بذلك... فإنني أعد الشاعر باننا سوف نخلد هذه القصائد التي كتبها هذا الجيل في السجن، نعم... سنخلد هذه القصائد التي كتبت في الكهف، في "الرقيم"، سنخلد تلك الأشعار التي نقشتها أيادي الثوار على جدران السجون... سنخلدها برغم أننا نعدكم أيضا بأننا سنهدم هذه الجدران وتلك السجون!

أضف تعليقك