هناك في منتصف التسعينات من القرن الماضي عندما كنت أذهب إلى المدرسة الإعدادية مبكراً كعادتي أجلس أمام بابها أنتظر موعد طابور الصباح، فقد كنت نجم الإذاعة المدرسية وقتها، كانت رائحة الخبز المنتشرة من البيوت الطينية تخترق أنفي، تنعشني بعبق لا حدود له، عندما كنت أساعد أمي -رحمها الله- في وضع الحطب وإشعال النار لإنتاج ذلك الخبز الرائع لنأكله ساخناً بما هو موجود، كان عمود الخبز الرائع يقف شامخاً كأعمدة معابد الفراعنة، تباهي كل سيدة ريفية صديقاتها بجودة وروعة إنتاجها، ويتبادلن معاً عدداً من الأرغفة لتحكم كل واحدة على جودة إنتاج الأخرى.
الموروث الثقافي اختفى من القرية المصرية وتحول إلى شيء من التندر والرفاهية، وأصبح إعداد هذا الخبز الريفي الرائع مهنة لبعض النساء الريفيات تطلبها على تليفونها الخاص أو عبر برنامج واتساب، وتطلب منها "عمود عيش" في نهاية اليوم يصلك وتدفع ثمنه بهدوء، ولكنك لا تجد تلك الرائحة المميزة التي كنت تسعى خلفها، إنها رائحة التاريخ الذي انقضى، ويبدو أنه لن يعود.
تمر الأيام وتتحضر القرى وتختفي تلك المظاهر الريفية البديعة لصالح التمدين، ويختفى معها ذلك الإنتاج الخاص بكل بيت ريفي، وأصبح الاعتماد على رغيف خبز تنتجه الدولة، اختفى الموروث الثقافي والمعيشي، قتلته الحكومات المتعاقبة بقراراتها اللااقتصادية، فاتجه الجميع إلى المخابز، فظهرت أزمة خبز أودت بحياة نظام مبارك العتيد، وأضحت تؤرق الأنظمة التالية.
لم أكن أعلم وأنا أتبرم وقتها من تكرار تلك العملية كل حين أنه سيأتي عليَّ الوقت الذي أبحث فيه عن رغيف خبز نظيف وآدمي، فلم تعد تلك الرائحة المميزة تنتشر كسابق عهدها، لم يعد هناك ذلك الخبز طيب الطعم، أصبح الأمر للذكريات فقط.
الخبز اليوم في مصر لم تعد أزمته في صناعته بقدر ما ارتبطت تلك الأزمة بالقرارات الاقتصادية التي تتخذها الحكومات المتعاقبة كل حين.
كان دائماً يرافق "عمود العيش" الأصيل حرية كاملة أتنفسها في كل لحظات اليوم، حرية في كل ما أفعله، فأنا أعلم أن الخبز أمي تصنعه لنا، والقمح يأتي من أرضنا المنزرعة فلا مشكلة، فلن طوابير أمام المخابز تهدر وقتي، ولن أذل نفسي لموظفي التموين من أجل بطاقة تموين، ولن آكل ذلك الخبز الرديء، فأنا حر.. اختفي "عمود العيش" واختفت معه حريتي.
كان صريراً يقشعر منه بدني يومياً عندما يفتح لنا السجان باب الزنزانة ليلقي لنا بـ"الجراية"، خبز تعافه الأنعام، يحمل معه رائحة القيد والانكسار، برودة المكان، وكآبة السجن، وغربة الأسر، كانت دافعاً لعدم الاقتراب من الخبز إلا مع قرصة الجوع، ننظفه من النمل قبل أن نلتهمه في هدوء واشمئزاز.
لم أكن أستوعب شعار ثورة يناير (عيش وحرية وعدالة اجتماعية) حتى هذه اللحظة، هنا فهمت مدى الارتباط بين العيش والحياة بكرامة وعزة، وأن يكون هناك عدالة يعيش الجميع في رحابها داخل وطني، هناك من بين قضبان السجن وعبر جدران الزنازين كانت تهب علينا رائحة عطنة من الخارج، إنها رائحة وطن فقد أبناؤه أحلامهم وأمانيهم.
وكانت الأماني بسيطة بقدر بساطة الحال، فقط حرية ورغيف خبز، إلا أن هذه الأحلام والأماني راحت أدراج الرياح مع كل نظام يسعى لإفساد عمود العيش؛ ليقتات هو ما لذ وطاب، والجميع ساكت وكأنه ملقم حجراً؛ لذلك لن أتألم، لن أصرخ أو أناشد بعد ذلك ماضياً ذهب ليعود، وسأعيش على مستقبل سأحفر طريقه بيدي، ولن أبحث مرة أخرى عن عمود العيش أو الحرية.
لكني لا أستطيع إلا أن أتنفس حرية، وأعود بذاكرتي إلى الأيام الخوالي، أبحث فيها عن رائحة الصباح الجميل يوم كنا سعداء.
طالع المقال على الموقع الأصلي:
http://www.huffpostarabi.com/hassan-khodary/-_9169_b_13868406.html?ncid=engmodushpmg00000003
أضف تعليقك