هذه المرة، يناير الشهر، يشبه يناير المعنى والقيمة والحلم، هو الأقرب إلى يناير 2011، فكل السموات ملبدة بسحب الغضب، وكل السحب حبلى بالثورة، وكل الطرق تقود إلى انتفاضة الخلاص من الكابوس.
مفتتح 2017 ليس مثل بدايات ما مضى من أعوام، فلم يكن عبد الفتاح السيسي ضد الجميع، كما هو الآن، ولم يكن الجميع مكتوياً بالنار، كما هو حاصل الآن، أكذوبة (25-30) انهارت، وبات مدركاً بالحواس الخمس أن مصر عرفت طريق الضياع، منذ ضيع المصريون ثورتهم، بعضهم باعها، مثل جزيرتين للأحلام، وبعضهم تنازل عنها، لقاء رعاية ودعم من الأقوياء، وبعضهم تخلى عنها، إيثاراً للسلامة من البطش، وطلباً للراحة من وجع النضال.
نعم، من المصريين من فعل بثورته ما فعل السيسي بالجزيرتين، متوهماً أنه بذلك ضمن البقاء والرخاء، ثم أفاق على صوت ارتطام رأسه بأرض لا تشبع من الدماء، ولا تكف عن ابتلاع الأحلام.
الكل أمام الحقيقة العارية الآن: هذا نظام لا يصون العرض، ولا يحافظ على الأرض.. نظام يريق الدم ويبيع الرمل والتراب.. هذا شخص قرر أن يحرق كل شيء كي يبقى في سلطته، يعدم معارضيه، ويقتل قضاته، ولا يتورع عن ارتكاب أي جريمة، أو حماقة، يتوهم أنها تطيل بقاءه في الحكم، وفي سبيل ذلك يهمه أن يصنع الإرهاب بيديه، إن لم يكن موجودا، كي يحيا على عوائد محاربته.
وعلى ذلك فإن في الثورة متسعاً للجميع، الغاضبون انطلاقاً من رفض التفريط في الأرض، والغاضبون انطلاقاً من استباحة الدم وانتهاك آدمية البشر، شريطة ألا يكابر أحد في الاعتراف بالحقيقة المجردة: بيع الأرض وهدر الدم يشكلان، معاً، عرضاً لمرض عضال اسمه نظام عبد الفتاح السيسي، ومن ثم لا يستقيم أن تكافح العرض وتترك المرض، أو تناشده أن يتوقف عن الإيلام..
وكما قلت سابقاً، لم يعد يصلح أن تواجه هذا النظام من وضعية المعارضة من داخله، ففي ذلك دعم وإنعاش لاستمراره، ذلك أن الانتقال من "حالة ثورية" إلى "حالة معارضة" للسلطة توفر غطاء شرعياً لجرائمها، وبدلاً من أن يكون الهدف الأسمى هو إزاحة هذا القبح، وتكسير هذا الجبل من المظالم والانتهاكات المتراكمة، تتصاغر الأحلام والطموحات إلى مجرد تحسين ظروف البقاء تحت هيمنة أولئك الذين يقتلون الحلم ويمارسون أبشع أساليب الانتقام من الثورة، بحيث لا يبقى الأمر متعلقاً بمحو معالم حلم كان ومضى، بل يتجاوز ذلك إلى إحراق المستقبل، وإكراه الجماهير على الكفر بفكرة التغيير والانعتاق من هذه الحالة المضادة لكل القيم الإنسانية.
هي ثورة واحدة، وإن تعددت المداخل والمنصات والخطابات، وكل هذا طبيعي بعد سنوات من عواصف الاستقطاب والانقسام، وكم من مليونيات احتضنتها ميادين يناير كانت الخلافات على أشدها في الفروع، غير أن احتشاد الكل حول المطلب الأساسي الواحد، كان يوفر حالة الحد الأدنى من التوحد على غاية كبرى هي تحرير مصر من الطغيان واستعادتها من الذين صغروها ورخصوها ولوثوها بقبحهم وفسادهم.
المهم أن تدرك كل الأطراف أن المعارضة في مساحة الهامش الشكلي لم تعد مجدية، سيما وأن السلطة تعبر كل يوم عن تناقضها الجذري مع كل مطالب وأحلام يناير، وقد تساءلت بعد أسبوعين من الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي: هل سيكون مسموحاً بمعارضة النظام الجديد/ القديم الصاعد إلى سدة الحكم مشياً فوق أشلاء الديمقراطية؟
وأزعم أن الإجابة شديدة الوضوح الآن: ليس مسموحاً بمناوأة الإرادة الانقلابية، ومن يفعل يُنحَر أو يُنتحَر، فإن كنتم جادين حقاً في نصرة قدسية الأرض وحرمة الدم فلتعتذروا لثورتكم، ولتدخلوا يناير، كما دخلتموه أول مرة، وخصوصاً أن شهر الثورة يقيم عليكم الحجة الآن، فما يتجمع في الأفق من أسباب ودوافع، نبيلة ومنطقية ومستحقة، وعوامل، داخلية وخارجية، للثورة الشاملة، يفوق بكثير الأسباب التي دفعت المصريين لملامسة الحلم واجتراح المعجزة في مستهل العام 2011.
أضف تعليقك