هناك بين جدران تلك الزنزانة الباردة جمعتنا فترة طويلة من الأسر. مجموعة من خيرة رجال مصر جريمتهم الوحيدة حب مصر والعمل على إصلاحها، كان رجلاً مميزاً ابتسامته لا تفارق وجهه، يحتوي الجميع كبيراً وصغيراً، دائم التفاؤل، واثقاً من عدالة القضية التي يحملها، مكانته في المجتمع لم تشفع له، بل كان من أوائل المعتقلين، مكانته العلمية والثقافية والاجتماعية لم تمنع العسكر من إلقائه في هذا المكان، مثله في أي دولة محترمة يحمل على الرؤوس وتفسح له القاعات؛ لينهل الناس من علمه، عن نقيب المعلمين بالشرقية عبد الحميد بنداري أتحدث.
ثلاث مرات يتم اعتقاله من مكان عمله وهو يلقن تلاميذه العلم، ثلاث مرات يشاهد الجيل الجديد معلمهم والعسكر يقتاده إلى غياهب مظلمة، ثلاث مرات يدفع فيها نقيب المعلمين ثمن وطنيته وحبه لبلاده، في كل مرة يثبت للجميع أنه ما ضاع حق وراءه مطالب، يخرج ليناضل ليعود من جديد، مثله كان ليسعى لأن يهجر بلاده إلى غيرها من البلاد التي تقدر علمه ومكانته وجهوده؛ لأني أعرفه شخصياً وعشت معه ما يقرب من سنتين في زنزانة واحدة، أعرف أنه لن يغادر بلاده ولن يتركها فريسة سهلة للعسكر سيجعل من حريته ثمناً ومن عناء أسرته سبيلاً ومنه كنموذج وقدوة مثالاً يحتذى به.
دار بيننا حوار طويل في الوضع، ما الحل فيما نحن فيه؟ الشهور تمر تلو الشهور، ولا جديد على الساحة، إلى متى سنستمر في هذا الوضع؟ تفاؤله الشديد كان يثير العديدين من حوله وكان البعض يتهمه بأنه حالم، وكنت أرى أنه واثق من ربه متحمس لقضيته.
في إحدى المرات استوقفه سجان برتبة كبيرة يلومه قائلاً: "ليه تعملوا في نفسكم كده، أنا لو قعدت مكانكم في الزنزانة دي 3 أيام أموت" كان رده بسيطاً جداً، قال له: "إحنا بنحب بلدنا وهنفضل ندافع عنها، نحمل لها الخير ومكملين، حريتنا وحياتنا كلها ثمن عادل لقضية إنسانية نحملها".
كثيرا ما كنا نتحدث في أمور عديدة في مختلف الموضوعات، نظراته في القرآن وخواطره كان لها أثر في نفس الكثيرين. فرحنا جداً عندما تركنا وأخلي سبيله بعد براءته واقترح عليه البعض أن يهاجر، في أول يوم خرج فيه كان على رأس مسيرة منددة بالانقلاب، وما هي إلا أشهر قليلة حتى اعتقل مرة أخرى، كان شعاره دائماً: "فيك يا رب" اللهم تقبل.
على المستوى الشخصي كان إنساناً محبوباً يتحسس أخبار إخوانه في الزنزانة وظروف حياتهم وحالة عائلاتهم.
نعم هو يستحق ما هو فيه من ابتلاء طالما شعاره "وعجلت إليك رب لترضى"، الرجل الذي خدم بلاده بإخلاص في مهنته وخدم زملاءه في نقابة المعلمين يستحق أن يقبع في زنزانة باردة تدق عظامه في سنه هذه! مثله يبحث عن التقاعد الآمن والبحث عن وسائل الرفاهية وهو يبحث عن العناء والتعب من أجل أجيال جديدة يعلم الله هل تحمل جميله فوق رأسها، لكن يكفيه أن الله يكافئه عليه بصبره وجهاده وتضحيته في سبيله، كان من حقه أن يختار ما بين المنفى أو الأسر، ولن يلومه أحد إذا سافر، لكنه اختار البقاء والتضحية.
تعلمت منه أن أنزل الناس منازلهم، وأن أحفظ لذوي السبق حقهم في التقدير والتكريم حتى وإن لم يطلبوه، تعلمت منه أن هناك تعاملاً بالعدل بين الناس، لكن بين الخاصة هناك تعامل بالفضل، تعلمت منه كيف أواجه أزمة بهدوء، كيف أواجه ظالماً وأوجه له رسالتي بكل قوة، تعلمت منه كيف أفخر بأسرتي وأبنائي، تعلمت منه كيف أحتوي إخواني وأحنو عليهم وألتمس لهم الأعذار على أقدارهم، تعلمت منه أن البسمة في ظل المحنة نصر كبير.
أعلم أنه سيرسل يلومني على مقالي هذا، لكني أكتبه لأجيال يجب أن تعرف أن هناك من ضحى حتى تحيا هي حياة كريمة.
تحياتي لك أستاذي الكريم في زنزانتك الباردة معتمة الأركان.. سلام عليك وعلى إخوانك في سجون الظالمين.
أضف تعليقك