لا يختلف اثنان في حقيقة أن السياسة الأميركية -بصرف النظر عن الرؤساء والساسة- استماتت ولا تزال تستميت في الإطاحة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأنها أنفقت كثيرا من مالها وماء وجهها في هذا السبيل، وأنها لجأت ولا تزال إلى كل الوسائل الشيطانية التي من الممكن أو المحتمل أن تساعدها على ذلك الهدف.
وحين ينشر باراك أوباما مذكراته فستعبّر مضامينُها عن حقيقة مهمة، وهي أن مكالمات أوباما الطويلة واتصالاته المتعددة مع الزعيم ورئيس الوزراء أردوغان (الذي أصبح رئيسا منتخبا للدولة) لم تكن عن حب لأردوغان أو إعجاب به كما تردد في ذلك الوقت المبكر، وإنما كانت بحثا مستميتا عن منفذ للتآمر على رجل حاز الإعجاب الأميركي والرئاسي الأميركي، ولم يحز في الوقت ذاته القبول الأميركي والرئاسي الأميركي، وهي صيغة كيمائية نادرة لكنها أصبحت متاحة في السياسة الدولية المعاصرة.
ومن السهل منطقيا أن نتعجب مما تضمنته الفقرة السابقة من أحكام شبه قاطعة وقابلة أيضا للوجود، على الرغم من أن أحدا لا ينفي أن هذه الأحكام تصور واقعا ملتبسا بطريقة أكثر تأملا وتدبرا وتيها في الوقت ذاته، لولا ما تميزت به من العناية بدقة الألفاظ المعبرة عن حالات نفسية متباينة تماما، حتى وإن بدت في بعض الأحيان مترادفة.
لكن الحوار الجاد -وربما الحاد في جديته- وحده هو أفضل ما يكفل تشخيصا أدق لما تمثله الحالة التركية الحالية أو الراهنة من تحدٍّ مستثير، وخاصة في استثارته للفهم الأميركي المتأني والمتعمق للسياسات والتوازنات الدولية.
وفي هذا الإطار فإننا نحترم بكل تأكيد من يجابهنا بالقول إن الفرق بين واشنطن وأنقرة واسع شاسع، وسيظل كذلك فترة من الزمن، وهو فرق كفيل بألا يسمح لأميركا بالقلق من أنقرة، وهذا صحيح.. لكن للموضوع جانبا آخر يتعلق بالحساسية الأميركية المفرطة تجاه أي نقص في التكوين الأميركي، وأي نكوص أو انحدار في التاريخ الأميركي؛ ومن سوء الحظ أن أميركا تشعر شعورا مضاعفا بهذين العنصرين تجاه تركيا الراهنة مهما أخفت مشاعرها ووأدت مظاهرها.
وربما أن لها الحق في ذلك:
– فأميركا لا تزال تشعر بأن افتقادها الإسلام الصاعد -رغم كل الحرب والقهر والتمييز- يضيع منها الإفادة من مقوماته الخلقية البناءة للدولة الليبرالية؛ وهي حين تدرس الجهاد فتشوه معانيه تفعل هذا خوفا منه ومن أهله وليس خوفا عليهم. وهي تعترف بأنها طورت نظام الوقف الإسلامي، لكنها ترى أن ما اقتبسته منه ومن نظام الصدقات أقل مما تتمناه مما حدث وتحقق بفضل تاريخ الوقف التركي على سبيل المثال.
– وعلى صعيد آخر؛ فإن أميركا -التي لم تنس هزيمتها على شاطئ طرابلس الليبية التي يترجمها نشيد أميركي لا يزال يُعزف حتى يومنا هذا- لا تنسى أيضا أنها كانت تدفع ما يقترب من معنى الجزية للدولة العثمانية. وهكذا يمكن لي القول بكل وضوح إنه إذا كانت أميركا ليست قلقة من أنقرة فإنها قلقة -وقلقة جدا- من إسطنبول.
وإذا كان هذا المبرر الخفي قد اتضح على هذا النحو؛ فهل يمكننا أن نقفز بفكرنا إلى سؤال عملي أو إجرائي يسأل عما تتصوره أميركا من مستقبل (تحبه العقلية الإستراتيجية الأميركية) لتركيا، بعد أن تكون قد نجحت فيما هي مستميتة فيه من عمل ذي محاور متعددة ومتوالية ومتوازية بل ومتناقضة على إسقاط أردوغان؟
هل تريد أميركا لتركيا مستقبلا أسود كهذا الذي أوجدته في العراق؟
هل تريد أميركا أن تفرض "نجيب الله" أفغانياً سوفياتياً فيقاومه الشعب التركي العظيم؟
هل تريد أميركا أن تستنسخ "ناصراً" (جمال عبد الناصر) يسبّ إسرائيل ويحقق لها ما لم يحققه اليهود أنفسهم، ويسب أميركا ويجعلها سيدة في الوقت نفسه على أصدقائه وأعدائه على حد سواء؟
هل تريد أميركا أن تدخل تركيا في حالة اللا استقرار الحكوماتي والحزبي التي تتميز بها إيطاليا إلى أن يظهر سيلفيو برلسكوني تركي بعد عقدين من الزمان؟
هل تريد أميركا أن تكرر تجارب أوغستو بينوشيه وأمثاله وهي تتظاهر بالبراءة وتكرر الشجب؟
واقع الأمر أن الولايات المتحدة تعلم بالورقة والقلم والحاسبة أنها أصبحت أعجز من أن تصل إلى أية نتيجة من النتائج الخمس السابقة؛ وأن معطياتها الحالية لا تزيد على أن تخلق مظهرا سلطويا نسناسياً مشوها ومستدعيا للسخرية، كذلك الذي اجتهدت البنتاغون حتى صنعته في القاهرة.
ثم سرعان ما انسحب صانعه وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل من الحياة السياسية حين تأكد أن ما صنعه يمثل كارثة أميركية على أميركا نفسها بكل المقاييس، وأنه غير قادر على صيانة أو إصلاح ما أوجده من شبه جهاز سلطوي أفشل من أن يؤدي أي وظيفة مطلوبة منه بحكم الإستراتيجية أو التاريخ.
وهكذا فضل ذلك الوزير المنشئ للانقلاب العسكري المصري أن ينهى علاقته بالسلطة، بدلا من أن يتولى علاج ورعاية ابنه الوليد المعوق ذهنيا وفسيولوجياً؛ وهكذا استقال هيغل بعد شهور قليلة من ولادته لانقلاب عسكري مشوه كان وأصبح وأضحى وصار كفيلا بإسقاط كل ورقات التوت عن كل عناصر الإمبريالية الأميركية تجاه الإسلام؛ ومن ثم إظهار كل ما كان مخفيا أو خفيا من قبح سترته الرتوش.
كان التفكير الأميركي بعد استقالة هيغل أن ما تم على يده أو ما تم له في القاهرة يمكن أن تعالج عيوبه ليظهر في صورة أكثر فعالية ونضجا واكتمالا في أنقرة، لكن رعاية الله حفظت رئيسا جادا في عبادته لربه وفي حبه لوطنه. وهكذا خرج الوليد الثاني ميتا!!
ومع أن أميركا فهمت كل هذا بكل وضوح فإنها بدأت تتحشرج وتدفع ببعض ساسة أوروبا إلى الحشرجة، ومع أن الحشرجة بطبيعتها غير قادرة على الإبانة فإن موضوعها المعلن لا يمكن إخفاؤه كما أن نصوصها المبتسرة لا يصعب تفسيرها.
وهكذا بدأت ملامح التبجح في الحديث عن الإشفاق على العسكريين المحتجزين للتحقيق لأنهم هم الذين يتمتعون بأوثق العلاقات مع الغرب، وتعاظم الحديث رويداً رويداً عما سُمي "حقوقهم"، وكأن الغرب يقول ما لم يقله محارب من قبل: احترموا الجواسيس وأكرموهم!!
وبدلا من أن تنتبه أوروبا لما يمكن أن يصادفها من مصاعب ومتاعب إذا نجحت أميركا في تحقيق أي انهيار حادّ في تركيا؛ فإنها آثرت مجاملة أميركا في محاولة الحط من قيمة إنجازات أردوغان.
ومن العجيب أن تسمع من رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر طريقته في ليّ الحقيقة، مطالبا العاشق بأن يثبت للمعشوقة أنها تحبه بدلا من أن يثبت لها أنه يحبها!! نعم هكذا تحدث رئيس المفوضية الأوروبية في لقاء تلفزيوني هناك، وهو حديث لا يصدر إلا عن سياسي محنك غير موفق، لأنه أسكرته الثروة والسلطة والسطوة دون حساب للآخرين.
هل تريد ألمانيا مثلا لتركيا مصيرا مثل مصير السودان أم مثل مصير مصر؟
وهل تظن ألمانيا أنها ستكون بمعزل عن أية انهيارات تحققها أميركا في تركيا؟
من المؤسف أن تسمع من الأوروبيين ما يدل على أنهم يعتقدون أن لا أحد يفكر بجدية ما دامت الولايات المتحدة الأميركية قد بنت إستراتيجيات طويلة المدى، ومن الطريف هنا -ونحن نعود بالذاكرة إلى الزمن القريب- أن الإستراتيجية البريطانية في القرن التاسع عشر (أو في نصفه الأول على الأقل) كانت قد جعلت من أولوياتها الحفاظ على كيان الدولة العثمانية على نحو ما كان عليه.
فلما رجحت كفة الحاقدين على فكرة الدولة الإسلامية انخرطت أوروبا كلها في أفظع المعارك الحربية على مدى التاريخ، ولم تختفِ للإسلام دولته (أو دوله المتعددة) التي عاشت قرونا متصلة.
لكن هذا لا يمنعنا من أن نجيب بطريقتنا على عنوان المقال في فقرة سريعة؛ فنقول إنه سيبقى لتركيا بعد أردوغان كثير جدا مما كان لأردوغان وجماعته الفضل الأوفى فيه:
دولة عصرية قوية.
روح إنسانية عالية.
ثقة بالنفس صادقة.
ديمقراطية محسوبة متجذرة.
حياة حزبية سليمة.
جيش مدرب مؤهل جادّ.
انتماء إسلامي جادّ.
توجه اجتماعي سامٍ.
مدرسة دبلوماسية نشطة.
علاقات أوروبية متشعبة.
خطة تنموية تلقائية التمويلذاتية الدفع.
بنية أسياسية بازغة.
مؤسسات عامة باذخة.
تأمين صحي مظلل.
تعليم قومي متميز.
أخلاق سياسية رفيعة.
خبرة مضادة للعسكرة.
ومع هذا؛ فإن تركيا مع أردوغان أكثر نجاحا وحماسا وإسلاما وأخلاقا منها بدونه.
أضف تعليقك