قبل اختراع كرة القدم واختراع الإذاعة والتلفزيون بل قبل اكتشاف الكهرباء برمتها، كان المصري البسيط في العصر المملوكي والعثماني ينفق ما اكتسبه من عمل يديه وينفق معه جزءا من الليل في المقهى ليستمع إلى حكايات راوي الربابة عن سيرة «أبو زيد الهلالي سلامة» والزناتي خليفة.
ينقسم جمهور المقهى إلى فريقين منهم من يشجع أبو زيد والآخر من أنصار الزناتي خليفة وتشتد المشاحنات كل ليلة بين أنصار الفريقين وقد تنتهي بخناقة بالسيوف والسنج، بل يصل الأمر إلى أن يطرد الأب ابنه ليلا لأنه ضبط متلبسا بتشجيع البطل الخصم، لم يكن المصريون طوال تاريخهم مرفهين فقد عانوا فترات طويلة من تسلط الحاكم والقبضة الأمنية واختلال العدالة واختفاء الحبوب وارتفاع الضرائب والمكوس، ولم يكن من حق المصري اختيار الحاكم ولا محاسبته وليس لديه حرية الاعتراض، فقرر المصريون ترك كل ذلك لله وانصرفوا لعشق حكايات البطولة وعشق الأبطال من أمثال أبو زيد الهلالي وحمزة البهلوان وعنترة بن شداد وعلي الزيبق.
كان في كل مقهى دكة عالية ليجلس عليها الراوي بربابته ويبدأ في عرض الحكاية التي كانت تنتهي على هوى من يدفع أكثر للراوي كي ينتصر للزناتي على أبو زيد أو لأبو زيد على الزناتي؛ إرضاء لمن دفع. عشق المصريون قصص البطولات والتضحية والفداء وحكايات ألف ليلة وليلة فوجدوا فيها بديلا ومهربا من بؤس الواقع الذي غالبا ما كان مريرا، كان الليل لقصص البطولات والنهار لطبلة الأراجوز الذي ينصب مسرحة في عرض الشارع ويضحك الأطفال طويلا على تعسف زوجة الأراجوز وبطش الخفراء ضد الفقراء، كانت موضوعات الأراجوز مضحكة لكنها مليئة بالإسقاطات والترميز التي تعكس الواقع بشكل ساخر.
وهكذا كان النهار للسخرية من الواقع والليل للهروب من ذلك الواقع، ولم يمنع هذا ولا تلك المصريين من القيام بثورات وانتصارات عظيمة كثورة القاهرة الأولى والثانية ضد الفرنسيين ولمعت أسماء مصرية عظيمة في تلك الاحتجاجات وثورة ١٩١٩ والوقوف إلى جانب انقلاب يوليو ٥٢ وانتصار أكتوبر وانتفاضة الخبز ٧٧ وأخيرا ثورة ٢٠١١، وفي العصر الحديث حلت كرة القدم محل قصص البطولات فتحول أبو زيد الهلالي لرأس حربة في أحد الفرق بينما أصبح الزناتي خليفة صانع ألعاب في فريق آخر وصار عنترة ظهير أيسر وجلس حمزة البهلوان على دكة الاحتياطي حسب رؤية المدير الفني للفريق المستر علي الزيبق.
رأينا المصريين يحتشدون ويتشاحنون يحتفلون ويتباكون على مباراة كرة قدم كما كان يفعل أجدادهم أيام المماليك وأيام العثمانيين، وقد تركوا تماما أمور الحكم واختفاء السلع واختفاء الناس والقبضة الأمنية وارتفاع المكوس والضرائب تركوا كل ذلك لله وتفرغوا ليلا لدور قبل النهائي بين الزناتي خليفة وأبو زيد الهلالي ونهارا تركوا أطفالهم أمام مسرحيات تسخر من الحاكم وزوجة الحاكم على الفيس بوك، حاول قادة انقلاب يوليو ومن بعدهم حسني مبارك استغلال هوس الناس بكرة القدم وعشقهم لدرع الدوري فرأينا مبارك وزوجته مع المنتخب القومي في كل محطاته، وظن مبارك أن استغلاله لانتصارات الكرة يضمن له البقاء فترة أطول لكن جماهير الكرة نفسها كانت جزءا من الجماهير التي أطاحت به ورفعوا له الكارت الأحمر، كما فعل أجدادهم مع خورشيد باشا ومع الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، فهل يعي النظام الانقلابي في مصر ولاعنو جمهور الكرة أن هذا المشهد مشهد مؤقت مر قبل ذلك وانتهى إلى كارت أحمر.
أضف تعليقك