بات ذلك التساؤل يتردد مع كل مرة تأتي ذكرى الثورة "ثورة يناير" التي تشكل حدثا مركزيا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، لتؤكد أن شعب مصر قادر على أن يقوم بالتغيير وأن يواجه الظلم الذي يحيق به، وأن يقدم كل ما من شأنه استشراف عملية تغيير تحقق الأهداف الأساسية من "عيش كريم، وكرامة إنسانية، وحرية أساسية، وعدالة اجتماعية"، هذه الثورة بما تمثله من أشواق لدى شباب مصر إنما تؤكد على إمكانية أن يستأنف ذلك الحدث ولكن بجملة من الشروط.
الأمر المؤكد أن الثورات لا تستنسخ لا في شكلها ولا في قدراتها، ولا تستنسخ كذلك من تجارب بلاد أخرى، ولا تحاكى بأي شكل من الأشكال سواء في الأساليب أو في تلك الأيام التي ترتبط بها ونستعيد ذكراها؛ استعادة أيام الثورة ليست بحال محاولة لاجترارها بأزمانها وبأشكالها، وإنما يعني ذلك أن الثورة حدث تقوم به الشعوب إذا ما توفرت الشروط التي تتعلق بنضج الحدث والناس والوسط المحيط والعوامل الفاعلة حتى يمكن أن يتحقق حدث الثورة كشرارة تواجه النظام القديم بكل أشكاله وكل مكوناته ومنظومة مصالحه التي تقف خلفه.
والأمر المؤكد كذلك أن يوم (11 فبراير) حينما يأتي فإنما نستحضر كونه يعد نقطة فاصلة ضمن أيام كثيرة ملتبسة أعقبت الثورة في أشكال مراحل انتقالية شتى، وبدت هذه الأيام تجلب حيرة الناس وينقسم الناس إلى فرق مشتتة في تقييم اليوم، أو تقييم الحدث، إلا أن الجميع من أهل الثورة يتفقون على أن يوم 11 فبراير الذي شهد تنحي المخلوع في بيان لرئيس المخابرات العامة والذي عين نائبا لرئيس الجمهورية في ذلك الوقت "عمر سليمان"، هذا اليوم محط الاتفاق بين أهل الثورة أن هذا اليوم لم يستثمر الاستثمار اللازم مرتبطا بعنوان الثورة، وكون ذلك لزاما لعملية تغيير جذري كبرى تشمل ليس فقط تغيير رأس النظام ولكن تغيير سياسات ومؤسسات.
وكان من الممكن أن يتراكم على هذا اليوم (11 فبراير) على الأقل مشاركة فعالة للحكم والقدرة على التأثير في اتخاذ القرار من أهل الثورة، لأن وضع الأمر بكليته في يد المجلس العسكري لم يكن إلا بداية لتحريك مسارات الثورة في طريق حاول العسكر القيام بعملية تطويق لهذه المطالب أو تمرير لبعضها، أو مماطلة في البعض الآخر، وشكل ذلك في حقيقة الأمر محاولة منظومة العسكر أن تنتقل من تطويق فعل الثورة إلى تطويق الثورة ذاتها، وإلى محاولة لإدارة مرحلة انتقالية بدت في النهاية هادفة إلى محاصرة الثورة بل ومحاكمتها.
لم تمر إذن ست سنوات على الثورة هباء، ولكنها من عمر ثورة مصر التي تملك قوة وقدرة على أن يستعيدها أهلها وأن يستأنفها ثوارها، لأنه كما قلت إن عملية الاستعادة والإحياء لابد أن تكون وفق ظروف استثنائية تتفهم قوانين وسنن الحالة الثورية والقدرة على السير في طريق إحياء ثوري منتظر، يبدو في الأفق بعض الناس وهم ليسوا بالقليل، قد أصيبوا بقدر من الإحباط الشديد خاصة من بعض شباب الذين شهدوا في فترة وجيزة فتح طاقات الأمل للتغيير واسعة، واستشراف لمستقبل عريض وفسيح، ثم بعد ذلك يشهدون ثورة مضادة استطاعت أن تجابه هذه الثورة الحقيقية التفافا ومحاصرة، وتوجيه ضربة مؤثر للثورة والثوار، لهؤلاء المحبطين كل الحق في ما يشعرون ولكن التعرف على حقيقة الثورات وامتداد أوقاتها حتى تمتلك المسار الصحيح والتأثير الكبير أمر يجب أن يوضع في الحسبان، فالثورة ليست جولة.
أبعد من ذلك سنرى فريقا قد أصابه قدر كبير من الخوف والتفزيع من جراء سلطة غاشمة باتت تتعامل مع حدث الثورة والمقدمات التي أدت إليها، وتحاول أن تجفف كل المنابع التي تمد الثورة بشرايين الحياة والإحياء والقدرة على التأثير والفاعلية، لهؤلاء أيضا الحق كل الحق، ذلك أن هذا النظام الفاشي غير المسبوق بسياساته البوليسية قد حول حاجز الخوف الذي هزه الثوار في يناير إلى جدار سميك من التخويف والترويع.
ويأتي بعد ذلك فريق ثالث يتحدث عن سياسات التجويع ويؤكد أن هذه السياسات التي مورست من هذا النظام باستخفاف شديد؛ من إلغاء الدعم وتعويم الجنيه وغلاء الأسعار إلى حد لا يمكن إنكاره فيؤكدون أن هذا الوضع لا يسهم في القيام بثورة ولكنه في حقيقة الأمر يدشن لعقلية قطيع يقوم على قاعدة "توجيه ضربات مستمرة لهذا الشعب حتى لا يفيق ويهتم فقط بتدبير معاشه كيفما اتفق أو أن يصير في حال من الشكوى المستمرة منتظرا بل ومستغربا لماذا لا يثور الناس وهو يجلس في بيته يمارس أمور حياته لا يقوم بأي فعل حقيقي"، حالة التجويع إذن تقترن بحالة من السلبية المقيتة وتقدم بعضا من تدشين حالة القطيع.
ولكن الأمر يتأكد لنا أن المعركة الأولى التي يجب أن يخوضها أهل الثورة هي معركة الوعي، هذه المعركة التي لم تعد تحتمل التأجيل ولا تحتمل أن تؤخر بعد استهداف ذاكرة الثورة طمسا وتشويها، الوعي هنا حالة لا ترتبط فقط بالعقل والوعي الجمعي ولكنها ترتبط بشروط الفعل والإدراك الصحيح لحجم قضية الثورة وما تتطلبه من معركة النفس الطويل، قلنا إن السنوات الست لم تمر هباء ولكنها حددت حجم المعركة الحقيقي وما يعنيه ذلك الشعار الذي أطلقه الناس "الشعب يريد إسقاط النظام".
إسقاط النظام ليس إسقاطا لشخص الطاغية، ولكنه إسقاط لمؤسسات الطغيان والاستبداد وشبكات الفساد، ورؤية استراتيجية متكاملة تحقق كل ذلك في إطار أولويات ثورية تؤكد هذا المسار بكل حقائقه وبكل مستلزماته، لابد وأن نتخلص من حال الرومانسية التي كان يفكر بها الثوار إلى حال من الواقعية تؤكد أن عملية التغيير ليست بالأمر الهين وأنها لابد وأن تقترن بتصورات كبرى تحقق هذه العملية وتأمينها ضمن حقائق كبرى تقوم على دعم الشعب كظهير مساند لسياسات التغيير.
ويقتضي هذا أن تدار ثورات ثلاث بذات الكفاءة والتصور الواضح وبشكل متزامن تحقق القدرة والفاعلية التي تحقق أهداف الثورة الحقيقية وتواجه الثورة المضادة بكل تشكيلاتها وشبكات مصالحها الدنيئة التي تتبعها، وإدارة ثورة التوقعات التي تحمل مطالب الناس والتي لا تحتمل التأجيل أو الإغفال أو الإهمال، هذه المرة الأمر يحتاج من أهل الثورة أن يذهبوا للناس يتفقدون ضروراتهم ومتطلبات معاشهم لا أن يأتي إليهم الناس، إن هذه الإدارة المتوازنة التي لا تجعل الثورة مجرد فعل في فراغ وإنما فعلا ممتدا يتطلب إدارة بتصورات عميقة وأدوات تحقق لهذه الثورة أمنها وتأمينها واستمرارها وتمكين حاضنتها الشعبية.
أكثر من هذا فإن الأمر يتطلب إدراكا لتلك الحال ليس فقط الداخلية بل الإقليمية والدولية ومحاولة استثمار كل ما من شأنه أن يجعل من الحالة الثورية حالة ضاغطة تستثمر الشعب كرقم صعب في عملية التغيير وتجعل هذا الأمر أساسيا لتحريك القدرات والضغط لمصلحة الثورة وتحقيق أهدافها، إن هذه الحالة الإقليمية والدولية غير المواتية لا تعني بحال أن إمكانية التعامل مع هذه الأوضاع بتحويلها إلى فرصة حقيقية مادامت هذه الشعوب تمتلك الحياة والرغبة في عملية التغيير، هذه بعض الشروط وليست كلها، يبدو ذلك كلاما عاما لكنه في حاجة إلى ترجمة رؤى حقيقية قابلة للتطبيق في سياق استئناف حالة ثورية يمكن أن تقوم على قاعدة إدراك طبيعة المعركة وضرورات إدارتها بالنفس الطويل، إن تغيير شخص ليس إلا مقدمة لتغيير نظام.
أضف تعليقك