عندما لا يمنع اتهام أحد الأشخاص بالفساد في ثماني عشرة قضية من اختياره وزيراً في التشكيل الوزاري الأخير بمصر، فيجب أن يتم التماس العذر لنا، عندما لا نصدق أن السبب في دخول وزير الري السابق الدكتور نصر الدين علام، السجن، هو اتهامه بالفساد. فسجنه هو للانتقام منه لتحذيره من المؤامرة التي تتمثل في منح السلطة في القاهرة، للقوم في إثيوبيا، الموافقة على بناء سد النهضة بدون ضمان وصول قطرة مياه واحدة للبلاد !.
لم يجمعني بالوزير السابق، سوى مكالمة هاتفية واحدة، كانت بعد خوضه الانتخابات البرلمانية في دائرتنا "جهينة" بصعيد مصر، في آخر برلمان في عمر مبارك، وقد كتبت أكثر من مرة ساخراً من هذا المرشح على قواعد الاستشراق، لدائرة وإن كان ينتمي إليها، إلا أنه لم يأت إليها إلا وزيراً ومرشحاً، ولم يتطرق الوزير في مكالمته معي إلى ما كتبت، لكنه تحدث عن العلاقة التي ربطت والده بأفراد من عائلتي في محافظة الإسكندرية، وقد دعاني لزيارته في الوزارة ولم ألب. وإن كنت أعلم أنه استهدف من هذه المكالمة الودودة إحراجي، وللتوقف عن الكتابة ضده، ولم يكن يعلم أنني قد توقفت فعلاً، بعد أن وجدته مرشحاً وعلى غير العادة "عابراً للقبلية"، وبدا لي أنه مهتم فعلاً بحل الكثير من المشكلات التي تعاني منها بلدتنا، ورغم انتمائه إلى عائلة عريقة بـ "جهينة" فقد حاز تأييد جميع العائلات!.
وهذا الاحتشاد الجماهيري، جعلني أقف على أنه سيحتكر المنصب لدورات كثيرة قادمة، وهو نفس الإحساس الذي انتابني عندما فاز في الانتخابات اللاحقة الدكتور محمد الصغير، مستشار وزير الأوقاف. وعلى العموم، فقد كان لمسقط رأسي نائبان، أحدهما من "الفئات"، والثاني "عمال وفلاحين"!
وقد أسقطت الثورة التصور الخاص بحالة الدكتور نصر الدين علام، فالحالة الثورية غيّرت المزاج العام، ولم يكن مقبولاً أن يعاد انتخاب مرشح للحزب الوطني بعد الثورة، كما أسقط الانقلاب تأميم المقعد لصالح الدكتور الصغير. وعلى كل فقد تم تخفيض عدد نواب الدائرة في قانون الانتخاب الأخير الذي أقره عبد الفتاح السيسي إلى نائب واحد، في دائرة كانت ممثلة بنائبين منذ أن عرفت مصر الحياة النيابية !.
ولم يحدث أن تواصلت مع الوزير السابق مرة أخرى ، حتى بعد أن قاد حملة دق الأجراس للتنبيه من المخاطر التي يمثلها توقيع السيسي على اتفاق المبادئ الخاص بسد النهضة، وكتب في ذلك عدة مقالات مهمة، ولم يتوقف أمره على الكتابة في الصحف، ولكنه شرح المخاطر التي تهدد مصر من جراء ذلك في صفحته على "الفيس بوك"، واستكمل مهمته بدق أجراس الخطر في مقابلات تلفزيونية كثيرة، ولم يكن يعلم أنه يمشي على سلك مكشوف، لأن السيسي فعل ما فعل وهو في كامل قواه العقلية، وكامل إدراكه بأنه يتنازل عن حصة مصر من المياه !.
استمعت مرة للدكتور مصطفى الفقي يقول إن وزير الري السابق تحدث معه عن هذه المخاطر، وطلب منه أن يرسل مذكرة للرئاسة، وقد فعل، وكنت قبل هذا أعتقد أن الوزير يخفف من وطأة المأساة عندما يصور السيسي في دور المغرر به من قبل وزارة الري، وأن الوزير الحالي قد ورط الرئيس في عملية التوقيع، ولم أسلم بأنه حسن النية فعلاً إلا عندما أرسل مذكرة للرئاسة استجابة لنصيحة مصطفى الفقي !.
لقد لفت نظر وزير الري السابق كتابة أكثر من مرة، ومن غير اتصال به، بأنه يلعب بالنار، وعليه أن يدرك حجم الكارثة، ليكون على بينة من أمره، فيواصل طريقه في التنديد بما جرى، وهو على علم بأن السيسي جانٍ وليس ضحية، أو يتوقف تماماً، حتى لا يؤخذ من مأمنه.
وحدث ذات خطاب للسيسي أن ظهر كما لو كان يخاطب الأرواح الخفية، ويهدد العفاريت، عندما تطرق لموضوع سد النهضة، وقد أعفى نفسه من الرد على ما أثير حول المخاطر المنتظرة من جراء موافقته على بناء السد، مكتفياً بما قاله بأنه لم يضيعنا من قبل ليضيعنا الآن، ثم خاطب المجهول وهو يقول: "ما دمت لا تعرف لا تتكلم، تعالى وأنا أفهمك"، وإذ بدا ليس معروفاً من يخاطب فقد كتبت أنه يقصد الوزير نصر الدين علام، الذي فضح جريمة التوقيع والتنازل ولكن بحسن نية، فـ "الرئيس" عنده وقع في دائرة التضليل التي يقودها وزير الري !.
تقدم الدكتور علام ببلاغ للنائب ضد وزير الري، يتهمه بارتكاب جريمة أمن قومي، لكن الوزير أقيل وجاء وزيراً من بعده يواصل مسيرته، على نحو كاشف بأنها سياسة السيسي وليست سياسة وزير، وربما لم يصدق وزير ري مبارك أن رأس السلطة في مصر يمكن أن يتآمر على الأمن القومي المصري، فيتنازل طواعية عن حصتها التاريخية من مياه النيل!.
السلطة الحاكمة في مصر، والتابعون لها من غير أولي الإربة، وضعونا في "خانة اليك" وباعتبار أنه لا بديل أمام مصر إلا إعلان الحرب، فهل بوسعها ذلك ؟!.. ويجب أن نعلم أن التساؤل يطرح مع الترويج بأن خيار الحرب مستبعد تماماً، في زمن صارت فيه الجيوش جل مهامها، أن تستولي على الحياة المدنية، وتدير معارض السلع !.
بيد أن الدكتور علام، قال إن هناك حلولاً منها أن يرفض البرلمان اتفاقية المبادئ ومن سلطته سحب توقيع السيسي عليها، كما أن أمام الدولة المصرية اللجوء للتحكيم الدولي والذهاب إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فبُهت الذي تآمر.
واستشعرت السلطة المتآمرة أن "نصر الدين علام" خطر على مخططها الذي يستهدف توصيل ماء النيل لإسرائيل فكان إسكاته بإدخاله السجن في قضية فساد، في عهد يعين فيه الفاسد وزيراً.
العبوا غيرها.
أضف تعليقك