• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

لم تنزعج سلطة الانقلاب في مصر من مشهد جنازة الشيخ عمر عبد الرحمن، انزعاج عناوين الفشل السياسي ورموز الكفاح الفاشل!

فالنظام العسكري، الذي يحكم مصر منذ ستين عاماً يقلقه جنازات خصومه إذ أظهرت شعبيتهم، فعبد الناصر أوجعته جنازة الزعيم مصطفى النحاس، والتي كانت حاشدة ولافتة في نفس الوقت، لرجل جرى تغييبه بالقوة، وتزوير التاريخ للإساءة إليه. وفي عهد مبارك بذل وزير الداخلية جهداً كبيراً من أجل ألا تشيع جنازة زعيم حزب الوفد، فؤاد سراج الدين، من مسجد عمر مكرم بوسط القاهرة، وعندما فشل جاء بنفسه ليشرف على عملية "إفشال الجنازة"!

وإذا كان النظام أصر على دفن الشيخ عبد الحميد كشك في السر، وبمجرد وفاته، فإن هذا النظام كان يرى في أي شعبية لصاحب فكرة انتقاصاً من شرعيته، فالشيخ الشعراوي ليس محسوباً على المعارضة كالشيخ كشك، ومع ذلك كان القرار بأن يكون تشييع جنازته من مسقط رأسه (إحدى قرى محافظة الدقهلية) وليس من القاهرة!

ولا أعرف الدوافع وراء ترك سلطة الانقلاب في مصر، المشيعين لجنازة الشيخ عمر عبد الرحمن، وهل استهدفت بذلك أن ترسل رسالة للغرب مفادها أن بديله قوي وحاضر ولن يخرج عن تيار الإسلام السياسي، أم إنها لم تتوقع أن يكون الاحتشاد على النحو الذي شاهدنا؟ أم كان تركها للجنازة أخذاً بقاعدة أخف الضررين، فالجثمان سيشيع إلى مثواه الأخير من مسقط رأسه بمحافظة الدقهلية، وليس من القاهرة، والصدام مع المشيعين قد يأتي بنتيجة عكسية، لا سيما وأن الجنازة كانت مثار اهتمام الناس في الخارج، وإذا كان الانقلاب يبرر مجازره بأنه كان يواجه خروجاً مسلحاً على الدولة، فما عساه أن يقول تبريراً لمنع الناس من مجرد تشييع جنازة في سلام؟!

ومع ذلك فإن دوائر الانقلاب قد انزعجت، لأن الحشود كانت تأكيداً على وجود شعبية للأفكار المتشددة ومن يمثلونها، ولو أن الوفاة كانت بعد الثورة، أو بعد الانقلاب مباشرة لما كانت الجنازة حاشدة، ففي الأولى فإن الشيخ لم يكن يعني سوى تلاميذه وأنصاره، وبعد الانقلاب كان المشيعون سيعزفون عن المشاركة خوفاً من السلطة ومن كلابها الضالة التي اختفت الآن، بشكل كاشف عن أن الجماهير المؤيدة لها تعيش خيبة الأمل!

ومهما كانت درجة انزعاج السلطة، فلا أظن أنه يمكن مقارنتها بانزعاج تيارات الضعف السياسي في مصر، التي يزعجها أي حضور جماهيري للتيارات الإسلامية، دون أن تعمل من أجل أن تكون منافساً شريفاً في الشارع، وقد جاء اعتراضهم مغلفاً بقشرة أيديولوجية مع أن عوراتهم تبدت للناظرين!

حالة الهلع التي انتابت هؤلاء، تم إعطاؤها بعداً فكرياً، وذلك بالقول إن الحشود أكدت الانحياز للقتل والقتلة، ولمن سفكوا الدماء!

وهي مشاعر كاذبة، لأن الدماء ليست لها حرمة عندهم، والذين انحازوا للانقلاب العسكري وهو يسفك الدماء، ويشعل النيران في الجثامين، يفتقدون للإنسانية، وليسوا مؤهلين للقيام بالدور الذين يقومون به الآن، وهو يأتي مدفوعاً بشعورهم بالفشل كلما وجدوا الناس تلتف حول منافسيهم في المجال السياسي!

يتحدثون الآن عن الدماء، وقد حصل الدكتور عمر عبد الرحمن على البراءة في كل القضايا التي اتهم فيها، ومن قضية اغتيال السادات، إلى قضية الجهاد الكبرى، هذه واحدة، أما الثانية فقد آن الأوان لنضع حدا لحالة البراءة المصطنعة التي يظهر بها القوم!

فإذا كانت الجماعات الإسلامية قد اغتالت السادات مثلاً، فهل ينكرون أن اغتياله وجد تأييداً منهم، وقد تطوع محامون يساريون مثل أحمد نبيل الهلالي للدفاع عن القتلة، وقالوا في مرافعتهم شعراً في من قتله، وكتب الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدته العصماء في مدح "خالد الإسلامبولي": "أصل الحكاية ولد.. فارس ولا زيه.. خد من بلال ندهته والنبي من ضيه.. ومن الحسين وقفته وفي محنته وزيه".. والتي ألقاها وسط تصفيق المصفقين في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي!

ولن ننسى عندما اغتيل السادات، أن أعلن الفريق سعد الدين الشاذلي قائد حرب أكتوبر في سعادة أن أبناءه في مصر من قتلوا السادات!

وعندما يأتي من سبق لهم الإشادة بمن قاموا بالاغتيال الآن ويتعاملوا على أنه فعل إرهابي، فإنها تكون الحرب والمكيدة، والتي بدأت بنجاح الدكتور محمد مرسي، عندما استقبل "المقدم" عبود الزمر أحد المتهمين في قضية اغتيال السادات، ليكون هذا دليلاً على احتفاء الحكم الجديد بالإرهابيين.. فهل كان عبود الزمر عندهم قبل ذلك إرهابياً؟!

فإذا تجاوزنا قضية اغتيال السادات، فإن قوى اليسار الفاشل ليس لها أن تستنكر الحشود المشاركة في جنازة الدكتور عبد الرحمن بحجة أن احتشادها دليل على الإيمان بالعنف كضرورة للتغيير، ذلك بأن كثيرا من التيارات اليسارية شكلت خلايا استهدفت قلب نظام الحكم بالقوة، وكان التنظيمان الأبرز هما: تنظيم ثورة مصر، والتنظيم الناصري المسلح، ولم تكن التسمية لأنه مسلح بالعلم والإيمان!

غاية ما في الأمر أن اليسار وجد من الأفضل له أن يعيش في كنف السلطة، وفي عداء نظام مبارك للإسلاميين فرصة ليتقربوا إليه بالنوافل، وإذا قيل إن السادات استعان بالإسلاميين لضرب اليسار فقد استعان مبارك باليسار لضرب الإسلاميين، وقد أعطوا رجلا كان أداة لسخرية رجال السادات وأقل وصف له هو "البقرة الضاحكة"، شكلاً جاداً، حتى تمكن من أن يحكم بالحديد والنار ويشيع في الأرض الفساد!

وقد وجد اليساريون المتشددون في التمويل الأجنبي فرصة في النضال المريح، فابتعدوا عن التنظيمات المسلحة!

والحال، كذلك، فليس لهذه التيارات السياسية أن تبدي هلعها بحجة أن جنازة عمر عبد الرحمن كانت تأكيدا على أن الشعب في غالبيته أصبح مؤيداً لاستخدام العنف، كأنهم هم أبناء "حمامة السلام" من الرضاعة!

ولو ابتعدوا عن الهوى لوقفوا على البعد الغائب في جنازة الشيخ عمر عبد الرحمن، ذلك بأن الانقلاب على المسار الديمقراطي في 3 يوليو، رد الاعتبار للأفكار المتشددة ولأصحابها، كما أن عمر عبد الرحمن وبعيداً عن أفكاره هو عند البعض رمز للاستقامة الشخصية، فبغض النظر عن أفكاره، فقد دفع ثمن دفاعه عن ما يعتقد أنه صواب، وفي الوقت الذي كان فيه البعض يناضل نضالاً مدفوع الأجر من العراق وليبيا، كان هو يدفع الثمن في السجون. كما أن التعاطف معه جاء لأنه أصبح تجسيداً للمظلومية، فقد ظلم ودخل السجون في مصر، كما كان سجنه في واشنطن فاضحاً بأن القضاء الأمريكي ليس نزيهاً كما يروجون، ولكنه يعرف "الخيار والفاقوس"!

فلم تكن كل الحشود التي أحاطت بجثمان عمر عبد الرحمن تؤمن بأفكاره، بل أكاد أجزم أن السواد الأعظم من المشيعين لم يسمع شيئاً عن هذه الأفكار، لكن الرجل ارتقى رمزاً متجاوزاً كونه أميراً أو مفتياً للجماعة الإسلامية!

ائتوني بيساري، أخلص لأفكاره كالشيخ عمر عبد الرحمن، ودفع ثمن إيمانه بها بدون أن يتراجع، وقبل أن يعيش حياته سجيناً مطارداً، وأنا أضمن له جنازة تنافس جنازة الشيخ!

ويا جماعات الكفاح الفاشل: كفى لطماً.

أضف تعليقك