سعى المجلس العسكري الموالي لمبارك منذ اليوم الأول للإيحاء بأنهم شركاء بثورة حموها، وبالتدريج انتقل لرواية أخرى تحكي عن رفضهم للتوريث بعهد مبارك وترتيبهم لانتفاضة شعبية، بقصد إنهاء مخطط نقل السلطة من مبارك لابنه.
روايتان تفتقدان، لكن الأولى منهما هيَّأت الرأي العام لتقبل الثانية لاحقاً، استناداً لضعف الوعي الجمعي في مواجهة عملية مركزة لطمس الوعي.
فلم يكن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أي تأثير في الحياة السياسية قبل سقوط مبارك، كما لا يذكر لأي من القيادات العسكرية معارضتها لأي من قرارات مبارك المصيرية منذ إقالة الفريق أبو غزالة سنة 1989، وتعيين الفريق يوسف صبري أبو طالب لفترة انتقالية حتى 1991، ثم الاستقرار على إسناد وزارة الدفاع إلى لواء متقاعد هو محمد حسين طنطاوي، رُقي لاحقاً لرتبة مشير.
كما كان تهميش دور الجيش في معادلة الحكم واضحاً، من خلال برنامج لإقصاء كل الرتب التي كانت تنبئ من خلال متابعتها، باستقلال في الرأي أو تحمل روح المبادرة، وجرى خلال العقدين الأخيرين من نظام مبارك خلق مصفاة افتراضية أو مقصلة حقيقية تمنع مرور أي ضابط من رتبة عقيد إلى عميد أو من عميد إلى لواء إلا بدت عليه أي علامات الاستقلال أو روح المناقشة.
ويُذكر أن عائلة مبارك تبنَّت استراتيجية واضحة لكسب ولاء الضباط ابتداء من رتبة عقيد خلال لقاءات ومناسبات تُعد خصيصاً لذلك.
ومن ثَم، جرت إجراءات التوريث بسلاسة، بما في ذلك تعديل مواد الدستور في سنة 2007 لتصبح الانتخابات الرئاسية المتوقعة في 2011 على مقاس الوريث ولتحميه من أي منافسة حقيقية.
ولم يكن حبس السياسي الشاب أيمن نور الذي نافس مبارك في انتخابات 2005 وحصل على 7.5% من الأصوات إلا إزاحة لنور من طريق جمال مبارك، فجاء الحكم عليه بالسجن لخمس سنوات، حتى لا يترك له فرصة الترشح في أي انتخابات في 2011.
ثم كانت انتخابات مجلس الشعب في 2010 تتويجاً نهائيا لتلك الإجراءات ليصبح الطريق ممهداً لولادة وريث الحكم الشاب، الذي بدأ في ممارسة سلطات الرئاسة فعلياً ابتداء من تاريخ رئاسته للجنة السياسات بالحزب الوطني وسيطرة الموالين له على البرلمان كرجل الأعمال أحمد عز، وعلى الوزارات الهامة بما فيها رئاسة الوزارة.
على أثر انتخابات 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2010، ارتفعت بالقاهرة والمحافظات لافتات واضحة بالإعلان عن تأييد جمال مبارك رئيساً لمصر، باعتبار أن الأمر أصبح مقضياً داخل أروقة السلطة، ولم تكن أي من أجنحته رافضة لهذا الانتقال، الذي اعتُبر ضماناً لاستمرارية معادلة الحكم القائمة وتطميناً لكافة الأطراف على مصالحهم.
ومن المهم الإشارة للقناعة الغربية، خصوصاً من الولايات المتحدة، بتولي مبارك الابن الحكم ليكون امتداداً لنفس سياسات والده، فقد كشف الكاتب البريطاني روبرت فيسك عن طلب من جهات رسمية وبدعم من السفارة الأميركية في القاهرة، بعدم نشر أي مساوئ عن الحكم في مصر.
كما زار مبارك الابن الولايات المتحدة في 5 مارس/آذار 2009 ليجتمع بقيادات بمجلسي الشيوخ والنواب منهم السيناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وقتها، والنائب هاوارد بيرمان رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس النواب، كما نشرت صحيفة "آرابيان بزنس" في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 تقريراً عن الكونغرس بأنه يتوقع أن يكون جمال مبارك هو مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية عام 2011.
كان الأمر منتهياً، فقد أكمل مبارك كل إجراءات التوريث دون أن يجرؤ ضابط -كبيراً كان أو صغيراً- على تعطيل إجراءاته أو مناقشة جدواها، وإلا فإن أي اعتراض من أي قائد عسكري مهم كان من الممكن أن يؤخر دعم الولايات المتحدة لعملية التوريث، بالنظر لاهتمامها بعلاقات خاصة بالمؤسسة العسكرية.
كانت قيادات الجيش بوضوح موالية لمبارك وشديدة الولاء لابنه وموافقة على عملية التوريث، وكل ما تطلعت إليه هو تحسين وضعها بمعادلة جديدة، لا تعطيلها ولا وقفها، فهي لم تكن راغبة ولم تكن قادرة.
من الناحية الواقعية، كان جهاز المخابرات العامة -الأكثر تغلغلاً بالنسيج الشعبي- في حالة نزاع مستمر وقاسٍ مع القيادات العسكرية، ولا يخفى على أحد الخلاف المستتر بين وزير الدفاع طنطاوي مع عمر سليمان، رئيس المخابرات وصاحب النفوذ الواسع، والذي انفجر بعيد تنحي مبارك مباشرة؛ ليسفر عن محاولة لاغتيال سليمان في اليوم التالي لتنحي مبارك، ثم الترتيب لاستبعاده من الانتخابات الرئاسية وأخيراً حتى مقتله الغامض.
حمل جهاز المخابرات العامة على عاتقه عمليات تزييف وجود تأييد قوي لتوريث مبارك، فكون مجموعات شبابية بلغ عدد بعضها عشرات المئات تروج لتأييد مبارك الابن وريثاً لأبيه، كما رتب لصعوده داخل أقبية الحزب الحاكم، ومشاركته باختيار الوزراء واطلاعه على أدق السياسات المتصلة بالأمن القومي؛ بل وصل الأمر لافتعال أزمات يقوم الابن بحلها بما يزيد من تأييده بأوساط لا يمكنه التواصل المباشر معها، كما هو الحال في مشكلة بث مباريات الدوري العام لكرة القدم ومشكلة دعم الأسمنت في 2009.
وحتى لو افترضنا جدلاً توافر أية رغبة لدى القيادات العسكرية لترتيب هوجة شعبية ما لاستغلالها ضد مبارك، فأية آليات كان يُمكنها أن تستغلها؟ فهي كانت معزولة تماماً عن التأثير في الشارع، سواء لضعف أدواتها الاستخبارية، ممثلة في المخابرات العسكرية التي لم تكن قادرة -بالنظر لمحدودية قدرتها البشرية وإمكاناتها اللوجستية- للقيام بأي دور مؤثر في أي أحداث شعبية.
في المقابل، فإن الجهات المناوئة لها -وهي المخابرات العامة- كانت مؤيدة بوضوح لخط مبارك، وتسيطر على مفاصل الدولة وأدوات التأثير في المجتمع، كجهاز أمن الدولة أو هيئة الرقابة الإدارية أو غيرها من أجهزة المعلومات والمتابعة وتقييم توجهات الرأي العام ومحاولة تغييره أو تعديله أو توجيهه.
بدا واضحاً دور تلك الأجهزة الأخيرة أثناء فترة الثمانية عشر يوماً بداية الثورة؛ إذ حاولت أن تُرتب مظاهرات شعبية مساندة لمبارك وبث إشاعات عن وجود دعم أجنبي ومؤامرة أجنبية ونشطاء أجانب في ميدان التحرير، وإطلاق سراح الجنائيين وبث إشاعات بالتعدي على المواطنين والتهجم على البيوت لاستثارة الشعب ضد المعتصمين بميدان التحرير.
أما أسلوب عمل أية قيادة عسكرية لإقصاء سلطة ما فقد ظهر بوضوح بانقلاب 3 يوليو/تموز 2013 على الرئيس محمد مرسي، بافتعال حشد جماهيري لم يصمد في الشوارع إلا لعدة ساعات، ثم الاستعانة بالسلاح لإقصاء رئيس منتخب له تأييد شعبي لم يتوافر لمبارك.
التجربة الأخيرة تكذب بوضوح ما يروج له عن أن قيادات عسكرية هي من استنهضت مظاهرات يناير/كانون الثاني 2011، فقد عكست مظاهرات يناير 2011 غضباً حقيقياً ورغبة في إحداث تغيير حقيقي، ربما لم يكن محدداً، لكن التصميم على إجرائه كان واضحاً ومباغتاً، ولم يكن بإمكان أي قوة وقفه أو ردعه.
المقارنة بين يناير 2011 ويونيو/حزيران 2013، تُظهر بوضوح أننا أمام وجهين مختلفين لعالمين متناقضين، الأول ثورة، والثاني ترتيبات لإجراءات انقلابية؛ الأول لم يكن بالإمكان وقف زحفه فاختار الانقلابيون احتواءه، بينما الثاني جرت ترجمته انتقالاً مباشراً للسلطة ليد المؤسسة التي رتبت كل شيء، مع الإقرار بحسن نية ملايين كان لهم حق الاعتراض على سياسات لم يقبلوها.
الخلاصة أن ثورة يناير جاءت ولادة طبيعية لمخاض شعبي استمر سنوات، وتتوج بروح غير مسبوقة للمبادأة لدى شباب لم يكن مسيساً تماماً، أمكنه أن يُفاجئ بأدوات بسيطة سلطة مستقرة ودولة عميقة ومعارضة مفتتة، ظنوا جميعاً أن ما هو كائن غير مرشح للتغيير؛ بل لا يملك أحد شفرة تغييره، فكانوا هم أول مَن حل شفرته.
أضف تعليقك