• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

قلت قبل أقل من عام مضى: لا أتصور أن التاريخ سوف يسامح ذلك النصاب الذي احتال على البشرية باختراع خطير، اسمه "التفكير خارج الصندوق"، ذلك الاختراع الذي يمثل الملاذ الآمن لكل تجار المبادرات، وبائعي الكلام، ومقاولي المشاريع الناسفة للجذور.

من حيث أراد بعضهم التفكير خارج الصندوق، فإنه في اللحظة ذاتها ابتدأ رحلة تجفيف الحراك الغاضب في الشارع وحبسه في ذلك الصندوق اللعين، الذي يتخذ مرة شكل ستوديو تلفزيوني، تتصاعد منه أبخرة المكالمة، ومرة أخرى يتشكل على هيئة قاعة محكمة إدارية، تصدر أحكاما لا يعتد بها أحد، لكنها تلطف المشاعر الملتهبة، وتوفر فضاء مفتوحاً، تعلو فيه طيارات ورق الوطنية المزركشة، وتمنح إحساساً عابراً بلذة الانتصارات الصغيرة، على نظام يقف مبتسماً، وممتناً، لحسن التعاون في سحب التظاهر من الشوارع والميادين إلى مذكرات المرافعة وحيثيات الأحكام.

يقول دفتر يوميات الغضب إن الاحتجاجات العارمة التي شهدتها مدينة بورسعيد منذ ثلاثة أيام، ضد تنفيذ أحكام الإعدام بحق جماهير الكرة، هي الأولى من نوعها منذ إسدال الستار على تظاهرات الشارع في الخامس والعشرين من أبريل العام الماضي، وهي التظاهرات الخاصة برفض اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير.

كان من المفترض أن تكون تلك التظاهرات استكمالاً لتيار الغضب المزلزل الذي شهده محيط نقابة الصحافيين في منتصف أبريل 2016، والذي أعاد إلى الأنوف عطر أيام الثورة الخوالي، وكان الجميع يمنون النفس بانتشاره وامتداده، غير أن الناشط السياسي والحقوقي البارز، خالد علي، أقنع المتظاهرين بالاكتفاء بذلك القدر من الغضب، وضرب لهم موعدا، بعد عشرة أيام، لاستئناف النضال، لكنها كانت فترة كافية جدا للنظام كي يفرض سيطرته، ويفسد موعد تجمع العشاق في أرض الثورة، حتى أن خالد علي، شخصيا، لم يتمكن من الوصول للتظاهرات المجهضة.

منذ ذلك التاريخ، اكتفت الثورة باللف والدوران في قاعات المحاكم، ومحيط أقسام الشرطة والنيابات، في معارك جزئية، أخشى أن أقول فئوية، ضغطا من أجل إخلاء سبيل معتقل، أو تنفيذ حكم إفراج عن سجين انتهت محكوميته وتتعنت السلطات في احترام أحكام القضاء.. وكل ذلك مقدر ومعتبر ومحترم، بل ومطلوب، لكن ليس المطلوب أن يصبح هو السقف الأعلى والحد الأقصى للتعبير عن مشاعر غاضبة، باتت على يقين بأن هذا النظام صار خطراً على مصائر البلاد والعباد.

والحاصل أنه كان لدينا حراك جماهيري واسع، ومتزايد، ضد هذا الانقلاب، ينطلق من مبادئ سياسية وأخلاقية ناصعة وواضحة، لكنه للأسف لم يجد من يحنو عليه، ويعضده وينميه، وبدلاً من ذلك تسربت من منابر إعلامية، من المفترض أنها أنشئت خصيصاً، لدعم الحشد الجماهيري ضد سلطة عارية عن الشرعية، تسربت نغمة تثبيط وتحبيط، تقلل من حجم الحراك، وتستخف بقدرته على صناعة التغيير، بل وتمارس وصاية على أصحابه بادعاء أنه لا يثمر شيئاً، سوى مزيد من الاعتقالات والاغتيالات، والنزيف.

هذه النغمة تحولت شيئا فشيئاً إلى مشاريع اصطفاف فاشلة، وسلسلة مبادرات، وكيانات تنسف بعضها بعضاً، بعيداً عن أية محاولة جادة لتعظيم الحراك الجماهيري وتنميته، بل العكس من ذلك، كان الإلحاح على مزاعم من نوعية أن الناس تعبت، والناس ملت ويئست، ونسيت، ومنتهى مطالبها تخفيض عدد المعتقلين، وتخفيف حجم الأحكام.

هكذا، مرة واحدة، قرروا أن الناس ضجت بالتمسك بمبدئية المعركة، ووضوح أسسها وميادين النضال من أجلها، فشعرت الجموع الغفيرة، التي صارت مجموعات صغيرة، نتيجة هذا الخطاب المثبط، أنها مكشوفة الظهر، بلا سقف حقيقي يحميها ويحترم نضالها، فأصبحت الصورة على ما تراه الآن: كثير من الاستوديوهات ومصاطب الكلام، وقليل من الحراك على الأرض، وفي المحصلة، لا المعتقلون خرجوا، ولا البطش توقف، ولا الاصطفاف تحقق، لأنه ببساطة لم يحاول التواصل مع الشارع، بقدر ما اهتم بالاتصال بمحترفي الوقوف في المنتصف، عند المساحات الرمادية، بين استدعاء الثورة، واستدرار المصالحات.

لقد اهتم بعضهم باللهاث خلف المتساقط من موائد الانقلاب، من الذين غضبت عليهم السلطة، فقررت تأديبهم، أكثر من اهتمامه بالقابضين على جمر النضال الحقيقي، وفي ذلك تجد عجباً عجاباً، من عينة حشد الدعم والتأييد والتعاطف مع نائب، قرروا إسقاط عضويته، و"شلحه" من برلمانهم، الذي من المفترض أن مناهضي هذا الانقلاب لا يعترفون بشرعيته من الأساس، إذ ينتحر المنطق هنا، حين يجدهم يمنحون شرعية لنائب أطيح به خارج برلمان غير شرعي، ولأسباب لا ترتبط، على أي نحو، بالمبادئ المؤسسة لمنهجية العمل ضد سلطة الانقلاب.

ومن باب التكرار:  نهين معنى الاصطفاف الثوري، حين يقوم على اللهاث غير العاقل، والترجمة الساذجة لكل إيماءة ماجنة، أو إشارة بالإصبع من أحد أعضاء فريق مشروع الانقلاب، أو المطرودين منه، فتكون النتيجة أننا نشعل النار داخل الصندوق ذاته، تحت تأثير غواية "التفكير خارج الصندوق".

والحديث يطول...

أضف تعليقك