لم يكن الحكم ببراءة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك مفاجأة، فالمفاجأة في أن يوجد بين ظهرانينا من يدعي أنه فوجئ بالحكم!
المقدمات تقود للنتائج، والمجلس العسكري الحاكم عندما أحال مبارك للمحاكمة، كان "مجبرا أخوك لا بطل"، والذين اقتربوا من المجلس سمعوا من بعض أعضائه تأكيدا بأنهم لن يحاكموا مبارك، لأنه قائدهم وقد ترقوا في عهده، ولا يمكن أبدا أن يسمحوا بإهانته. وهي رواية متواترة سمعتها من أكثر من واحد، من بينهم زميل يعمل في إحدى القنوات الفضائية!
بيد أن الذي جرى أن مبارك طل علينا عبر قناة "العربية"، وكأنه يخرج لسانه للثورة والثوار، وظهر أنه يدير الدولة من مقر إقامته في شرم الشيخ، وكأنه ينتظر الفرصة للعودة لموقعه، لاسيما أن بيانه الأخير تحدث عن "التخلي" عن الحكم، وليس "التنحي"، فكانت الدعوة لمليونية بميدان التحرير، وتزعم القاضي السابق محمود الخضيري فكرة الزحف بالسيارات إلى حيث يقيم المذكور ويتم القبض عليه بأيدي الثوار، وهذا من أسباب سجن الخضيري والتنكيل به، وعدم إخلاء سبيله تطبيقا لأحكام القانون إلى الآن، مع انتهاء فترة سجنه، مما يجعلنا أمام عمل من أعمال العصابات؛ فهو مختطف وليس مسجونا!
كانت قرارات المجلس العسكري بسجن أي عنصر من أركان حكم مبارك هي دائما ردة فعل، فقد فوجئ الثوار بتصريحات لوزير داخلية مبارك "حبيب العادلي" في صحيفة "المصري اليوم"، يؤكد فيها أنه ليس معتقلا ولكنه في بيته، وذلك بعد النشر على نطاق واسع: أنه متحفظ عليه في المخابرات العسكرية، فثار الثوار ليتم القبض على العادلي، وتعطي له التحية العسكرية وهو في محبسه!
ونفس الأمر حدث بالنسبة لرئيس ديوان القصر الجمهوري زكريا عزمي الذي فوجئ الثوار بأنه لا يزال "يداوم" في مكتبه بقصر عابدين، ولعدة شهور بعد تنحي مبارك، وكأن ثورة لم تقم، فثارت ثائرة الرأي العام، ليتم حمل المجلس العسكري على سجنه.
ولأن المجلس العسكري "خليفة مبارك في الملاعب" وبقرار منه، كان ينظر إلى سجن "الرفاق" على أنه ضرورة، فقد تعامل وفق قاعدة "الضرورة تقدر بقدرها"، وبدت السجون هى أماكن للحماية حتى تصبح الفرصة مواتية للإفراج عنهم، وقد حدث هذا بعد الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، المعين مديرا للمخابرات الحربية بقرار من مبارك، بعد أن رأى رئيس سلاح المشاة الذي كان يخدم فيه السيسي، أنه ينبغي إحالته للتقاعد!
في حالة مبارك، فإن من أعد عريضة الاتهام هو النائب العام الذي عينه مبارك نفسه واصطفاه على عينه، وهو المستشار عبد المجيد محمود، الذي رفعت الثورة صورته مطالبة بعزله، ومما يؤسف له أنه عندما عزله الرئيس محمد مرسي فإن ثوار الغبراء، الذين جرى تعميدهم في "حظيرة" المجلس العسكري، انضموا للثورة المضادة وخرجوا ينددون بقرار عزل النائب العام. فلم تكن المرة الوحيدة لتحالفهم مع الفلول في 30 يونيو، كما هو شائع!
وكان الأمر هزلا من أول يوم، فقد أحيل المخلوع للمحاكمة أمام الدائرة التي يترأسها المستشار عادل عبد السلام جمعة، وهو من يعرف بقاضي مبارك؛ ذلك بأن جميع قضايا الرأي العام، والمتهم فيها خصوم نظام مبارك، كانت تحال إليه لتصدر الأحكام بما يمليه عليه النظام، فهو الذي حكم بسجن الدكتور سعد الدين إبراهيم في قضية التمويل الأجنبي، وهو من حكم بسجن أيمن نور في قضية التوكيلات المزورة، وهو من أيد التحفظ على أموال (29) شخصية من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وهو من سجن خمسة من الصحفيين بجريدة "الشعب" لأنهم كشفوا المبيدات المسرطنة التي تجلبها وزارة الزراعة من الخارج، ووزيرها هو الدكتور يوسف والي، نائب رئيس الوزراء، والأمين العام للحزب الوطني الحاكم، وعندما حكمت محكمة النقض بإعادة محاكمة الصحفيين لعدم استجابة محكمة الجنايات لطلب الدفاع باستدعاء الوزير للمحكمة لسؤاله، فقد استدعى "القاضي الملاكي" الوزير يوسف والي وحماه من المتهمين والدفاع، فكل أسئلة الدفاع كان تعقيب "عادل عبد السلام جمعة" عليها: المحكمة تعترض على توجيه هذا السؤال. فقد كان هدفه هو استفاء الشكل بحضور الوزير، فلا يتم نقض الحكم من جديد، وقد حكم من جديد بسجن الصحفيين!
لقد كانت محاكمة أمثال القاضي "عادل عبد السلام جمعة" ضرورة ثورية، لكن أنصاف الثورات، لا تنتصر لحق ولا تدين ظالما، فما حدث هو العكس عندما تم إحالة مبارك للمحاكمة أمام هذا القاضي، وبشكل لا تخطئ العين دلالته!
وقد دفع محامي عن أحد شهداء الثورة برد هذا القاضي، للأسباب سالفة الذكر، فقد كان الجنين في بطن أمه يعلم أن "عادل عبد السلام جمعة"، هو لسان مبارك الذي يقضي به، ولأن المذكور وجد في نظره قضية مبارك مع هذا الدفع الذي أذاعته وسائل الإعلام، تذكيرا بأحكامه، فقد اتفق مع المحامي على أن يسحب "طلب الرد" مقابل أن يتنحى هو، استشعارا للحرج!
كانت الحراسة المشددة على القاضي المذكور التي فرضت عليه أيام مبارك قد رفعت، بعد انسحاب الشرطة في يوم جمعة الغضب، ولم يكن بمقدورها أن تحمي نفسها لتحمي غيرها، وكان بعض جيران القاضي في الريف قد بدأوا في التحرش به، فكان التنحي استشعاراً للحرج، هو لضمان أمنه الشخصي وخوفا من افتضاح أمره، بأنه محسوب على المتهم مبارك. والمشكلة ليست فيه ولكن في من أحال مبارك إلى القاضي المحسوب عليه؟!
كان من الواضح أن المجلس العسكري، بحكم كونه كان بعيدا عن السلطة وعلى الهامش في عهد مبارك، ليس عالما بخريطة "أبناء النظام" في مؤسسات الدولة، فكان قرار الإحالة في البداية لقاض معروف إعلاميا بأنه من أهل الموالاة لمبارك ولحكمه، لكنه مع ذلك كان يرى أن الفرصة للإفراج عنه وعن أركان حكمه ليست مواتية، خلال العام والنصف عام وهي الفترة التي حكم فيها البلاد، فتحرك على مسارين:
المسار الأول: هو تحويل سجن مبارك ونجليه وأركان حكمه إلى فترة نقاهة، وقد أودع مبارك لفترات طويلة في المركز الطبي، وعندما اضطروا ذات محاكمة لوضعه في السجن تحت ضغط الثورة، ظل مبارك في الطائرة التي حلت في فناء سجن طره يرفض أن يغادرها، ويطلب استدعاء المشير محمد حسين طنطاوي على وجه السرعة، وكانت الرسالة أننا لم نتفق على هذا، لكن نجحت المفاوضات "الودودة" التي قام بها كبار الضباط في إقناعه بأن يلتمس لطنطاوي العذر!
المسار الثاني: هو بإخفاء كل أدلة الإدانة في قضية قتل المتظاهرين، ومر علينا إفساد أحد الضباط أمام المحكمة للأدلة وفي الجلسة، مرور الكرام، كما أن طنطاوي شهد أمام المحكمة لصالح مبارك، وأسرف في تبرئته عندما قال أنه لم يصدر له، أو لغيره، أمرا بقتل المتظاهرين، كما لم يصدر له، أو لغيره أمرا باستخدام القوة في مواجهتهم، وأعلن في الشهادة التي تقرر أن تكون سرية، أنه لم يطلب من مبارك أن يغادر الحكم، وأنه لم يسمع عن موضوع التوريث، حيث أن هناك من قالوا إن موضوع توريث الحكم هو ما جعل الجيش ينحاز للثورة!
في الوقت الذي كان فيه طنطاوي يقول هذا الكلام، كان "غلمان الثورة" يروجون للدعاية التي خرجت من الشؤون المعنوية للقوات المسلحة بأن الجيش هو من حمى الثورة، والبعض منهم أوشك أن يقول إنه من قام بها!
عندما غادر المجلس العسكري الحكم، رأى أنه قد رفع عنه الحرج للإفراج عن مبارك وجماعته، في قضية قتل الثوار، لكن الرئيس محمد مرسي أسرع بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لجمع الأدلة الكافية للادانة، ووقع الانقلاب وهزمت الثورة، وعقدت محكمة النقض جلستها في "أكاديمية الشرطة"، مما يجعل الأمور واضحة، ولا تستدعي أن ترتسم الدهشة على وجوه البعض!
لقد رفضت الدائرة أن تنعقد في "أكاديمية الشرطة" بناء على طلب وزارة الداخلية، التي قالت إن هذا لدواع أمنية، وقال نائب رئيس محكمة النقض أن جلسة 2 مارس ستعقد بدار القضاء العالي، وأن المحكمة لن تنعقد إلا في مقرها أو في مقر تابع لها وتحت إدارتها، وهي التصريحات المنشورة في موقع "اليوم السابع" يوم الخميس 3 نوفمبر 2016!
وبعيدا عن مكان عقد الجلسة، فلا أجد لدى رغبة في نقد الحكم من الناحية القانونية، فربما لم تقدم للمحاكمة الأدلة الكافية للإدانة، لأن العملية من بدايتها كانت ضرورة تقدر بقدرها لتحين الظرف المناسب لإخلاء سبيل مبارك من تهمة قتل المتظاهرين، ونحن الآن نعيش الظرف الأنسب، فالسيسي يحكم مصر، والثورات بطبيعتها عمل ضد القانون، وعندما تفشل فإن القانون الطبيعي يأخذ مجراه، فيصبح الثوري متظاهر خارج على السلطة، ويستمر القضاء أحد أركان النظام القائم، وواحد من مثلث الحكم، حيث السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية!
ليس مفاجأة أن يصدر الحكم ببراءة مبارك في قضية قتل المتظاهرين، ولكن المدهش ألا يعود للحكم لاستكمال دورته، فله في ذمتنا ثمانية أشهر!
أضف تعليقك