بعد أيام تشهد تركيا الاستفتاء على دستور جديد، سيكون إقراره خاتمة لسنوات طويلة من الكفاح على طريق الحرية والانعتاق من سطوة العسكر.
وقبل أيام مرت ست سنوات على رحيل البروفيسور «نجم الدين أربكان» (29/10/1926م - 27/2/2011م)، صانع الصحوة الإسلامية في تركيا الحديثة، وصاحب أطول وأشرس ملحمة جهادية عبر القانون والدستور على امتداد اثنين وأربعين عاما (1969 – 2011م)؛ على طريق إعادة تركيا إلى أحضان الإسلام.
وحتى يقول الشعب كلمته في الدستور الجديد، نتوقف أمام ذكرى رحيل أربكان، ومسيرة كفاحه الحافلة بالنضال والتضحيات.
فرغم نبوغه في تخصصه العلمي الذي وضعه على سلم المجد، إلا أنه فضل خوض غمار السياسة وتحمل مخاطرها، فهو خريج كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة إسطنبول عام 1948م، وكان الأول على دفعته، ونال شهادة الدكتوراه في هندسة المحركات عام 1953م من ألمانيا، وهناك حقق ابتكارات جديدة - مازالت تحمل اسمه - لتطوير صناعة محركات الدبابات، التي تعمل بكل أنواع الوقود.
وبعد عودته إلى تركيا في نهاية عام 1955م، نجح في صناعة أول «محرك».. لكنه ترك ذلك المجد، واتجه إلى صناعة أمة جديدة على هدى الإسلام العظيم، فقد أيقن أن بناء الأمم أهم لديه من بناء المصانع والمحركات.
ولم تكن مهمة الرجل سهلة، بل كانت أشبه بعملية استشهادية داخل أتون السياسة الذي كان غليانه على أشده، فقد حاول عظماء سابقون أن يخوضوا عملية إعادة بعث الأمة التركية على هدي من قيم الإسلام، ولكن العلمانية الشرسة كانت لهم بالمرصاد، وحصدتهم مقاصلها مثلما جرى مع الزعيم عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا (1950 م - 1960م) – يرحمه الله - الذي تم تعليقه على المشنقة هو واثنان من رفاقه في 17 / 9 / 1961م.
فمنذ إسقاط دولة الخلافة عام 1924م على يد مصطفى كمال وتأسيس نظام علماني لا يطيق الإسلام، لا اسما ولا رسما، ظلت المؤسسة العسكرية هي الحاكم القوي في تركيا حتى أنهى الرئيس رجب الطيب أردوغان سطوتها بإفشال انقلاب 15 يوليو 2016م.
في تلك الأجواء المرعبة، وبينما كانت تركيا تعيش أصعب فترات تاريخها، من انقلاب عسكري إلى انقلاب أشد بشاعة، ومن طبقة علمانية إلى طبقة أشنع، دخل أربكان إلى حلبة السياسة عام 1969م، وكان واضحا في توجهه الإسلامي، وقاد الحركة الإسلامية لتشق طريقها وسط أنواء العلمانية وتحت أسنة رماح العسكر.. ولاقى في سبيل ذلك العنت والظلم، فقد حل له النظام العلماني - على مدى أربعين عاماً - أربعة أحزاب؛ هي: «الخلاص الوطني»، و«السلامة»، و«الرفاه»، و«الفضيلة».. لكنه لم يتوقف ولم يستكن.
ومنذ اليوم الأول لدخوله حلبة السياسة أعلن «أربكان» عن هويته بشجاعة قائلاً: «إنّ أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام، وقد حاول الماسونيون والشيوعيون أن يُخرِّبوا هذه الأمة ويفسدوها، ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد، فالتوجيه والإعلام بأيديهم، والتجارة بأيديهم، والاقتصاد تحت سيطرتهم، وأمام هذا الطوفان فليس أمامنا إلا العمل معاً يداً واحدة، وقلباً واحداً؛ حتى نستطيع أن نعيد تركيا إلى سيرتها الأولى، ونصل تاريخنا المجيد بحاضرنا الذي نريده مشرقاً...».
وقد أشعلت تلك الكلمات ثورة المؤسسة العلمانية المتطرفة؛ فأصدرت محكمة أمن الدولة العليا قراراً بحل حزبه الأول (الخلاص الوطني)، ومصادرة أمواله وممتلكاته، بعد أن جرَّمته بتهمة انتهاك الدستور، والعمل على إلغاء العلمانية، والعمل ضد مبادئ «أتاتورك»، والدعوة لإقامة حكومة إسلامية في تركيا.
واقتيد «أربكان» وزملاؤه إلى السجن بتُهمٍ متعددة، من بينها العمل على استبدال قوانين الدولة العلمانية بمبادئ تقوم على أساس الإسلام، وهو ما كان كافياً لأن يحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات، وإخراجه من الحلبة السياسية.
وهكذا ظل يواجه انقلاباً بعد انقلاب، وأحكاماً متتالية بالسجن ومصادرة للأموال والممتلكات! من قِبَل الطبقة العلمانية، تلك الطبقة التي أصرت حتى وهي في النزع الأخير من عافيتها على الانتقام من هذا العملاق، مستخدمة كل ما في أيديها من أدوات قانونية، ولم تتوان عن استخراج كل ما في جعبتها من حِيَل سياسية للانتقام من «العدو الإسلامي اللدود»، فأصدرت المحكمة العليا (قضاتها علمانيون) حكمها بإدانة «أربكان» بالغرامة ب12.5 مليون ليرة تركية (9 ملايين دولار حينها)،وذلك بعد حل الحزب عام 1998م، وإجبار «أربكان» على الاستقالة من رئاسة الحكومة بالقوة العسكرية، وبناء على ذلك الحكم؛ تم الحجر على كل ممتلكات «نجم الدين أربكان» بما فيها بيته الذي كان يعيش فيه.. وأصبح مخيّراً بين الدفع أو بيع كل الممتلكات في مزاد علني.
كان الدافع الحقيقي وراء هذه الحملة هو تحقيق حزبه «الرفاه» مفاجأة بفوزه في عدة مدن بانتخابات البلدية عام 1994م، وفي عام 1995م حدثت مفاجأة أكبر بفوزه بأغلب المقاعد في الانتخابات البرلمانية (158 مقعداً من أصل 550)؛ ليصعد «نجم الدين أربكان» إلى رئاسة الحكومة عام 1996م، ويصبح أول رئيس وزراء «إسلامي» في تركيا منذ سقوط الخلافة عام 1924م.
لم ييأس الزعيم المناضل «أربكان»؛ فأسس حزباً جديدا «الفضيلة» عام 2000م، وتولى «رجائي قوطان» رئاسته بسبب وقف «أربكان» عن مزاولة العمل السياسي.
وفي عام 2003م زال الحظر عن «أربكان»؛ فأسس حزباً جديداً هو حزب «السعادة».. وواصل الرجل رسالته حتى آخر نفَس في حياته يوم الأحد 27 فبراير 2011م يوم رحيله.
وقد تشرفت بلقاء البروفيسور نجم الدين أربكان أربع مرات: الأولى في مدينة طرابلس الليبية عام 1990م حيث كان يشارك في وفد من قادة الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي رتب برنامجه المفكر الليبي محمد الشريف، للتحرك لدى صدام حسين وحثه على إنهاء احتلاله لدولة الكويت، وكنت في تلك الجولة مصاحبا للمهندس إبراهيم شكري رئيس حزب العمل والأستاذ عادل حسين رئيس تحرير جريدة الشعب (رحمهما الله ) بصفتي صحفيا بالجريدة، والمرة الثانية كانت في منزل المهندس إبراهيم شكري بالقاهرة، ثم في منزل الشيخ الجليل عبد الله المطوع رئيس مجلس إدارة جمعية الإصلاح ومجلة المجتمع يرحمه الله التي انضممت للعمل فيها، ثم التقيته للمرة الأخيرة عام 2010م، في آخر احتفال بفتح القسطنينية باسطنبول. والشاهد أنني خرجت من تلك اللقاءات بيقين أن الرجل يعرف رسالته جيدا، ويتحرك بمشروع متكامل، يحذر من الصهيونية والماسونية ويدعو إلى الأمة الواحدة ويصر على أن التحرر من الهيمنة الاستعمارية، كطريق وحيد نحو تحرر وانطلاق الأمة، ويؤكد على أن الإسلام قادر على حمل الأمة لتحقيق كل ذلك، مرددا مقولته المشهورة: «المسلمون الذين لا يهتمون بالسياسة، يحكمهم سياسيون لا يهتمون بالإسلام».
وظل أربكان يدعو لمشروعه الإسلامي المتكامل بكل جسارة ودون توقف أو تردد حتى وفاته يرحمه الله، وبعد أن وضع تركيا على طريق العودة للإسلام من جديد بقيادة تلامذته «رجب طيب أردوغان»، و«عبدالله جول».. وفق اجتهاداتهم الخاصة التي كانت موفقة بفضل الله.
إن طريق الحرية والتحرر والانطلاق نحو المستقبل على هدي مشروع إسلامي حضاري كبير يقف العالم أمامه اليوم باحترام، ويستفز كل قوي الاستعمار... هذا الطريق الذي بدأ يوم علق عدنان مندريس على المشنقة، ودفنت فيه على امتداد ستة وخمسين عاما جماجم الآلاف، وروته شلالات من دماء الأبرياء وسكبت عليه أنهار من الدموع والعرق حتى انتهى ذلك يوم فشل الانقلاب الأخير في 15 يوليو 2016م لتبدأ تركيا عهدا جديدا ومشرقا - بإذن الله - يوم الاستفتاء على الدستور الجديد في 13 مارس الجاري.
أضف تعليقك