كان ذلك في السنوات الأخيرة من ثمانينات القرن الماضي، شباباً كنا في العام الأخير من دراستنا الجامعية، وبعضنا قد تخرج والتحق بأداء الخدمة العسكرية الإلزامية.
كان صديقي، وابن قريتي، عبده، قد أنهى دراسته الجامعية في الكيمياء، وجاء إلى القاهرة للتجنيد، حيث التحق بالخدمة، ضابط احتياط، على أطراف القاهرة.
كان يومه ينتهي عند الرابعة عصراً، تقريباً، ليدخل في ساعات الملل والضجر، فكان في أيام كثيرة يزورني، حيث أسكن في حي مدينة نصر. وفيما بعد قرّر أن ينتفض ضد قهر الفراغ، وقمع الساعات الثقيلة، ويهبط إلى قاع القاهرة، يشاهد فيلماً في دار السينما (كانت شمس نادية الجندي ونبيلة عبيد قد غربت وبدأت مرحلة معالي زايد وإلهام شاهين)، أو يمارس بعض الصعلكة (المنضبطة) في الشوارع، ثم يعود إلى حيث يخدم.
ذات يوم، اتصل بي صديقي، وصوته مزيج من الأسى والسخرية، يحكي لي ما جرى له في شارع عماد الدين، وسط القاهرة، لكنه اشترط قبل أن يحكي أن استمع حتى النهاية، وأن أمنع الضحك، فقلت له سأفعل، قدر المستطاع.
قال عبده إنه، لدى خروجه من السينما، منتشياً، حيث شاهد فيلماً جديداً، قرّر أن يذهب إلى ميدان رمسيس، سيراً على قدميه، كي يقفز في أية وسيلة مواصلات، تأخذه إلى أول طريق السويس. وبينما يسيرعبده، يطالع واجهات المحال، في شارع عماد الدين، الشهير بالمطاعم، سقط مظروف كبير من يد رجلٍ كان يمشي أمامه، في حالةٍ غير طبيعية، فانحنى يلتقط المظروف، وقبل أن ينادي على صاحبه، ظهر له رجل آخر، تبدو على وجهه علامات الوقار، وقال له: انتظر: حكمة إلهية أسقطت المظروف من هذا الرجل، قبل أن يبدّد ما بداخله على المعاصي والعياذ بالله.
ووقف صديقي عبده مشدوهاً، وهو يستمع إلى قصة صاحب المظروف من الرجل الذي ظهر له فجأة، قال له إنه شخص سكير ومنحرف، فضلاً عن أنه تاجر مخدرات، وإن المظروف الذي سقط به مبلغ كبير من المال، كان سينفق في الحرام، لولا أنك رجل طيب، والتقطت "الظرف"، قبل أن يذهب إلى يد أخرى.
حين قال له عبده إن حالة الرجل تبدو بائسة، ولابد أنه محتاج للمال، كما أن هذا المال حقه، وهو حر يفعل به ما يشاء، رد عليه هذا (فاعل الخير) بالقول "هذا المال لو تركناه له سيدمر أسراً بأكملها، لأنه سيشتري به مخدرات ويروكها"، وأردف"حسناً، نستطيع أن نعطي له بعض المال الذي يكفي لشراء عشاء لأولاده، ويذهب إلى حال سبيله، ونقتسم، أنا وأنت، حصيلة ما في المظروف، "وعلى فكرة، هذا ليس حراماً، لأننا نصنع معروفاً ونمنع فساداً".
صديقي عبده طيب جداً، لكن هذا لم يمنع أن الفكرة لعبت برأسه، فقرّر أن يترك نفسه للتجربة، وبمزيج من الانتهازية، وادعاء المفهومية. وافق، وهنا طلب منه أن يخرج أي مبلغٍ من جيبه، ليذهب به "فاعل الخير" وحده إلى صاحب المظروف، ثم يعود لاقتسام ما بداخله معه، فأعطاه صديقي"الطيب" ستين جنيهاً، كانت كل ما لديه.
ذهب الرجل، ووقف عبده بانتظاره، ممسكا بالصيد الثمين، ومضت دقائق طويلة، ثم تحولت الدقائق إلى ما يقترب من الساعة، ولم يعد "فاعل الخير"، فانتظر نصف ساعة آخر، حتى بدأ القلق يساوره، فقرّر أن ينهي هذه الحالة من التوتر والانتظار ويفتح المظروف، ليأخذ، على الأقل، الستين جنيهاً التي دفعها، ويمضي إلى حال سبيله.
حين فتح المظروف، وكان يبدو من خارجه مكتنزاً وعامراً بالأوراق، كاد أن يخرّ صعقاً، إذ لم يكن بداخله إلا نسخة من صحيفة، تطبع وتوزع ليلاً، ومعها ورقة مالية من فئة نصف الجنيه المصري.
هنا فقط أدرك صديقي القروي الطيب أنه وقع ضحية عملية احتيال ونصب محكمة من الرجلين، وهام على وجهه في الشوارع، باحثاً في الزحام عنهما، من دون جدوى، فقفز في أول باص للنقل العام، عائداً إلى حيث أتى، ومسجلاً رقماً قياسياً بكونه أول مواطن مصري يشتري نسخة من صحيفة يومية بستين جنيهاً في ذلك الزمان، أي ما يعادل ستة آلاف جنيه في 2017.
ما أفدح الثمن!
هل تذكّرك هذه القصة السخيفة بشيء مما نعيشه الآن؟
ضع المجلس العسكري مكان ذلك المتمكن "فاعل الخير"، ثم أكمل السيناريو كما تحب.
يا عزيزي: كلنا عبده.
أضف تعليقك