عندما شرعت في الكتابة عن الشاب "أحمد الخطيب"، الذي يعيش بين "الحياة والموت"، في سجون عبد الفتاح السيسي، تدافعت في ذهني ثلاث مقدمات في وقت واحد، وكل مقدمة تريد أن أستهل بها هذا المقال!
المقدمة الأولى:
عندما تقدمت لجنة العفو الرئاسية بالقائمة المختارة لمن ترى العفو عنهم، وبمعاونة الأجهزة الأمنية، قام عبد الفتاح السيسي بالشطب على اسم "علاء عبد الفتاح"، وقال: لقد سب أمي، فهل سب "أحمد الخطيب" والدة المذكور على النحو الذي دفعه للتنكيل به، فلم تشمله قرارات العفو رغم حالته الصحية المتأخرة، ومرضه الغريب منذ ستة شهور؟!
المقدمة الثانية:
لماذا لم يصدق الناس دموع عبد الفتاح السيسي؟ ففي الآونة الأخيرة، أسرف المذكور في البكاء وإظهار دموعه للناس، حتى أوشك أن يُطلق عليه "البكاء". في محاولة يائسة منه ليبدو أمام الرأي العام أنه إنسان مرهف الحس جياش المشاعر، وقد بدا لافتاً أن الشعب المصري الذي كانت تؤثر فيه مثل هذه المشاعر، لدرجة أنه يبكيه مشهد في عمل درامي، قد سخر من السيسي، فهل تغير المصريون؟!.. أم إنهم يدركون أن الرجل الذي يرفض العفو عن شاب مريض، هو "أحمد الخطيب"، لا يمكن التعامل مع دموعه إلا أنها "دموع التماسيح"، من ممثل غير موهوب، فشل في إتقان دوره!
المقدمة الثالثة:
لن نشكر عبد الفتاح السيسي، لأنه استجاب مؤخراً لضغوط الرأي العام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقام بتقديمه للعلاج مسجوناً في مستشفى حميات العباسية سيئ السمعة، بدلاً من الإفراج عنه تنفيذاً لرغبته في أن يموت بين أهله، وعلى صدر والدته، ففي الحقيقة أنه نقله من الأسوأ حيث السجن، إلى السيئ وهو المستشفى، فمستشفى حميات العباسية، هو من المستشفيات الحكومية التي قد لا توجد بها "سرنجة" لمريض، أو مكان لائق لتلقي العلاج، فما بالنا ومن يعالج فيه هو "شاب مسجون"، بعيد عن أهله، ومقيد بالأصفاد. إنها عملية قتل بالبطيء، تستهدف أن يقول السيسي، إذا لا قدر الله ولا سمح حدثت الوفاة، أنه فعل ما عليه. فهل فعل فعلاً ما عليه؟!
ومهما كانت المقدمة التي يراها القارئ الأنسب لهذه السطور، فإن من نكتب عنه هو شاب كالورد، تم القبض عليه، لأنه شارك في مظاهرات ضد حكم العسكر، الذي يقول أنه جاء أيضاً بالمظاهرات، وقال أحد رجال القانون أن هناك شرعية اسمها "شرعية الحشود"، لكن على ما يبدو أنها شرعية ليست قابلة للاستخدام سوى مرة واحدة، فبمجرد أن جاءت بالسيسي وتابعه "عدلي منصور"، أصبح التظاهر جريمة، والحلم بغد أفضل لهذا الوطن، من الجرائم التي يعاقب عليها القانون!
لم يقتل "أحمد الخطيب"، ولم يحمل سلاحاً، ولم يحرق جثثاً، ولم يتنازل عن الأرض، ولم يتآمر على الأمن القومي المصري بالتنازل عن حصة مصر التاريخية من مياه النيل لأثيوبيا، ومع ذلك وجد نفسه مسجوناً، في سجن وصفه في رسالة لأمه، بأنه مكان قذر، وقد أصيب بمرض كان الظن الغالب أنه سرطان الدم، قبل أن يتم اكتشاف أنه مرض نادر اسمه "الليشمانيا الحشرية"، حيث تسببه حشرة، تنمو في مثل هذه الأماكن القذرة، فكم مريض بهذا المرض غير "أحمد الخطيب"؟!
هذا المرض أصيب به الشاب قبل ستة شهور، وتم النشر المكثف عن حالته، ولو كان من بيده "عقدة الأمر" يمتلك مشاعر إنسانية ولو في الحد الأدنى، لأفرج عنه، لكن الشاهد أنه لا يملك إلا مشاعر زائفة يسعى بها لكسب تعاطف الجماهير، التي ردت عليه بالسخرية والهجاء!
لقد أدهشني حرص عبد الفتاح السيسي، لسجن "علاء عبد الفتاح" وإخوانه، رغم تدخل "محمد حسنين هيكل" بنفسه للإفراج عنهم، وإذ تعامل السيسي مع هذا الطلب من "عراب الانقلاب" على أنه ضرورة، تقدر بقدرها، وأن تركيزه على "علاء" فقد أفرج عنه وحده بعد قضاء فترة في الحبس الاحتياطي، ليتم القبض عليه بعد الحكم بسجنه، مما أغضب هيكل، وابتعد عن دائرة السيسي، إلى أن تدخل الوسطاء وأصلحوا ذات بينهما، لكن بقي "علاء وإخوانه" في السجن، والمدهش هو رفض هذه "الوساطة الغالية"، من شخص كانت نقطة تمركز الانقلاب في بيته، مما جعله نقطة استهداف من أهالي "برقاش"، وقد شاهدوا كل مكونات الانقلاب هناك، فكان إضرام النيران فيه، في رسالة لا تخطئ العين دلالتها!
"علاء" والذين معه، كانوا من المنحازين للمرحلة، وفي يوم فض "رابعة"، وعندما ذكر الدكتور "البلتاجي" اسمه بالحسنى، وهو ينعى ابنه، كان رد فعل "علاء" ساخراً فانحيازه للانقلاب، أفقده إنسانيته، فلم يقدر لحظة فقد إنسان لفلذة كبده، ولم يقم وزناً للمشاعر الإنسانية، ومع ذلك لم تشفع له هذه المواقف عند عبد الفتاح السيسي.
مشكلة "علاء وإخوانه" كانت مع قانون الطوارئ، لكن كانت مشكلة السيسي هى مع كل إنسان شارك في ثورة يناير، فصار يرى أن الشباب هم العدو له، وقد ثبت أن مشكلة علاء معه تتجاوز ذلك، فحسب قوله: "لقد سب أمي"!
لا نعرف مناسبة ذلك، وهل كان السب في هتاف ردده معه "إخوانه"، أم انفرد به وحده، وأخذ السيسي العاطل في الباطل، و"أحمد دومة" بجريرة "علاء" ورأى أن الإفراج عن "دومة" ومن معه يستلزم الإفراج عن من سب أمه، فأبقى عليهم جميعاً؟.
ومهما يكن، فنحن أمام دولة صغرت حتى صارت على مستوى مشاجرات الحواري، فلا يجد رأس الدولة ما يمنع من أن يمعن في التنكيل بسجين لمجرد أنه وصله أنه سب أمه دون أن نعرف ملابسات ذلك وحقيقته!
في كل مرة يتم فيها الحديث عن العفو الرئاسي، فإن الأنظار تلتفت إلى "علاء عبد الفتاح" وإخوانه، وكان واضحاً عندما أثير أمر المعتقلين في مؤتمر الشباب وفي حضرة عبد الفتاح السيسي، الذي رفض الإفراج عنهم بحجة أن "علاء" سب والدته!
لكن "أحمد الخطيب" لم يقم بسب أم السيسي، ولا نعرف الأسباب وراء عدم إدراج اللجنة اسمه ضمن من يشمله العفو رغم مرضه الغريب؟ ليأتي الآن رئيس لجنة العفو "أسامة الغزالي حرب" ليقول: "إن أحمد الخطيب هو رقم 292 في قائمة العفو التالية"، والتي لا نعرف متى سيعتمدها السيسي ليكون لنا أن نسأل ولماذا لم تتضمنه قائمة العفو السابقة.. فهل يُنتظر موته وهذا الكلام هو لإبراء الذمة وذراً للرماد في العيون؟!
نعلم أنها لجنة للديكور، كما كان عدلي منصور ديكورا، وكما يوجد برلمان ليس أكثر من ديكور، فمصر تعيش في مرحلة الديكور لشخص واحد هو السيسي، لكن الأجهزة الأمنية هى الوسيط بين كل "ديكور" وعبد الفتاح السيسي، الذي يمتلك قلبه عداوة لكل الشباب، لاسيما الواعي منه، لدرجة أنه ينكل بشباب صغير في سجونه، ليقضي على الخوف بداخله هو من الغد!
فأحمد الخطيب، ليس أول المرضى، وليس الشاب الوحيد في سجون السيسي، فهناك من تم القبض عليهم وهم في سجن الطفولة وجرى اعتقالهم في دور الأحداث، ثم انتقلوا إلى السجون بعد أن صاروا شباباً، وهم الأكثر عرضة للتنكيل في السجون لكسر إرادتهم، حتى يشعر السيسي الخائف من ظله بالأمان!
في السنة الماضية هناك (80) حالة وفاة لأسباب صحية في سجون عبد الفتاح السيسي، وفي شهري يناير وفبراير الماضيين وقعت (14) حالة وفاة نتيجة للإصابة بالأمراض، وهناك (42) حالة إهمال طبي في حاجة للعلاج، ونسبة المسجونين الذين يحتاجون للعلاج هي (60) في المئة من تعداد السجناء السياسيين.
وهذا طبيعي في سجون هي الأسوأ في تاريخ الاستبداد في مصر، فالداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.
وحالة "أحمد الخطيب" هي النموذج لما يحدث في سجون العسكري الأسود، ورغم براءة الفتى، التي هي واضحة في ملامحه، ورغم أن أحلامه تقلصت إلى مستوى الرغبة في الموت بعيداً عن "المكان القذر"، فإننا على الجانب الأخر نجد غلظة في القلب، وجهالة في الأداء؛ فالخروج من سجن إلى سجن، ومن مقبرة إلى مقبرة اسمها مستشفى حميات العباسية!
ولعل السيسي فوجئ باستهانة المصريين بدموعه وسخريتهم من بكائه المتواصل، ولو فكر لعلم أن إفرازات قلبه هي ما يراها المصريون في دموعه ولا يخطئونها.
فعندما تنساب دموع السيسي ويغالبه البكاء تتبدى أمامنا حالة "أحمد الخطيب"، الشاب الصغير الذي يمعن السيسي في الانتقام منه والتنكيل به.
عندئذ نعلم أننا أمام ممثل يفتقد للموهبة، وحاكم ضعيف يخيفه شباب صغير، ومريض نفسي يتلذذ بآهات ضحاياه.
أهذا هو "الدكر" الذي كنتم به تبشرون؟!
أضف تعليقك