الإخوان المسلمون وعلاقتهم بالأقباط قضية يستخدمها أعداء الوحدة الوطنية ليشيعوا الفرقةَ ويؤججوا نار الفتنة بين نسيج المجتمع المصري، ولتكون ورقة ضغطٍ على الإخوان في التعامل مع بعض القضايا؛ فما إن يحدث شيء حتى تخرج الأقلام لتضرم نار الحقد في نفوس أبناء الوطن الواحد بهدف إشاعة الفوضى، وزرع الحقد والبغضاء في نفوس الإخوة الأقباط، وتخويفهم من الإخوان وما يحمله الإخوان من فهمٍ شاملٍ وعادلٍ للإسلام، وخوَّف هؤلاء على مصالحهم إذا حدثت ألفة ووحدة بين المسلمين والأقباط.
غير أنه إذا نظرنا لم نجد لهذه الإشكالية أي أساس في تاريخ جماعة الإخوان منذ نشأتها حتى وقتنا هذا، وأن الإخوان والأقباط كانت الحياة تسير بينهم رغيدة، بل كان كثير من أعضاء اللجنة السياسية التي كوَّنها الإمام البنا كانت من الأقباط، وليس ذلك فحسب، بل كان مندوبه في انتخابات عام 1945م في لجنة سانت كاترين هو الخواجة خريستو أحد المسيحيين، وهي اللجنة الوحيدة التي سلمت من التزوير وفاز فيها الإمام البنا بنسبة 100%، ناهيك عن التعاون بين الإمام البنا والإخوان من جهة وبين الأقباط في وأد كثير من الفتن الطائفية التي اندلعت، مثل حادث الزقازيق والذي سنتحدث عنه، وحادث الزاوية الحمراء والتي استطاع الأستاذ التلمساني وقت أن كان مرشدًا أن يقضيَ على هذه الفتنة وغيرها من أوجه التعاون التي يشهد عليها التاريخ بين الإخوان والأقباط.
الأقباط في فكر الإمام البنا
قبل أن نتحدث عن علاقة الإخوان عامةً بالأقباط ومدى التعاون بينهم في وأد الفتن الطائفية التي كان ينفخ فيها الاحتلال الأجنبي ليسعِّر النار بين الطرفين، لا بد أن نلقيَ الضوء على مدى اهتمام الإمام البنا بالأقباط في فكره، وطريقة التخاطب بين الطرفين حتى نستشف منها كيف كانت العلاقة تسير بين مؤسس الجماعة والأقباط حتى طبع ذلك على سلوكيات الإخوان نحو إخوانهم الأقباط.
ومن خلال رسائل الإمام البنا إلى بطريرك الكنيسة وأساقفتها وردهم عليها يتضح مدى العلاقة بين الطرفين؛ ففي إحدى الرسائل التي أرسلها الأستاذ حسن البنا المرشد العام إلى الأنبا "يؤنس" بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر.
ولأن المنكوبين الأحباش كانوا في أغلبهم من المسيحيين الأرثوذكس، وكانت الكنيسة الحبشية تابعةً آنذاك للكنيسة المصرية، وكان الأنبا يؤانس بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر، وكان هو الرئيس الأول للجنة مساعدة الأحباش، وحرصًا من الإمام البنا على عدم إثارة حساسية دينية فقد وجَّه رسالةً للغرض نفسه إلى الأنبا يؤنس؛ يخاطب فيها حسه الديني، ويذكِّر فيها أن ضحايا اليهود في فلسطين إنما هم المسلمون والمسيحيون على حد سواء، وأيدي اليهود خربت ديارهم، وعطلت مصالحهم، وقُضي على موارد أرزاقهم، وبيت المقدس هو بيت القصيد من هذا العدوان الصارخ، ويحاول اليهود بعملهم هذا أن يستولوا عليه، وعلى غيره من الأماكن المقدسة التي أجمع المسلمون والمسيحيون على تقديسها وإكبارها والذود عنها.
ثم بيَّن الغرض الأساسي من الرسالة فيقول: "ونحن في مصر- مع الأسف الشديد- لا نملك إلا أن نقدم ما تسخو به الأكف من مالٍ لمساعدة هؤلاء الأبطال الذين ألمَّت بهم الفاقة، حتى إن لجنة التموين والإغاثة بالقدس تصرف يوميًّا مائة وأربعين قنطارًا من الدقيق لإطعام الجائعين، ومن أجل ذلك توجهنا إلى غبطتكم راجين أن تشملوا هؤلاء المجاهدين الأبطال بعطفكم الأبوي، فتأمروا بإمداد أبناء فلسطين ما تبقَّى من أموال لجنة مساعدة الأحباش إلى اللجنة العربية العليا بالقدس، ونعتقد أن حضرات أعضاء اللجنة الكرام يسرهم أن يحققوا هذا الرجاء؛ فيكونوا بذلك قد قاموا بخدمة الجارتين العزيزتين في وقتٍ واحد، في محنة متشابهة، وإن رأيتم فضلاً عن ذلك أن تتكرموا بدعوة المحسنين من المصريين بالتبرع لهذا الغرض النبيل فهو العهد بكم، والمأمول فيكم وكان لكم الشكر مضاعفًا".
وفي رسالةٍ أخرى أرسلها إلى غبطة البطريرك التي جاء فيها:
"حضرة صاحب الغبطة الأنبا يوساب بطريرك الأقباط الأرثوذكس
تحيةً مباركة طيبة، وبعد..
فأكتب إلى غبطتكم وأنا معتكف لمرض ألمَّ بي, أذهلني ما يكتب وما يقال اليوم حول وحدة عنصري الأمة المصرية, تلك الوحدة التي فرضتها الأديان السماوية وقدستها العاطفة الوطنية وخلدتها المصلحة القومية ولن تستطيع أن تمتد إليها يد أو لسان، وكما- يا صاحب الغبطة- أن الإسلام فُرِضَ على المؤمنين به أن يؤمنوا بكل نبي سبق, وبكل كتاب نزل, وبكل شريعة مضت, معلنًا أن بعضها يكمل بعضًا, وأنها جميعًا دين الله وشرعته, وأن من واجب المؤمنين أن يتوحدوا عليها وألا يتفرقوا فيها ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: من الآية 13)، كما أنه دعا المسلمين وحثهم أن يبروا مواطنيهم, وأن يقسطوا إليهم, وأن يكون شعار التعامل بين الجميع التعاون والإحسان ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).
على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختص قبط مصر بوصيته الطيبة, حين قال: "فاستوصوا بقبطها خيرًا؛ فإن لكم عليهم رحمًا", وأشار القرآن في صراحة إلى عاطفة المودة المتبادلة بين أهل الدينين في قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 82).
وما جاء الإنجيل إلا لتقرير روح المحبة والسلام والتعاطف بين الناس, حتى إنه ليدعوهم إلى أن يحبوا أعداءهم, ويباركوا لاعنيهم, ويصلوا من أجل الذين يبغضونهم، وبذلك وحده تكون على الأرض المسرة وفي الناس السلام.
هذه الحقائق نؤمن بها ونعمل على أساسها, ويدعو الإخوان المسلمون إليها, وقد بعث مكتب الإرشاد العام إلى شُعَبه, خلال هذا الأسبوع, بنشرةٍ يذكر فيها الواجب المقدس الذي حتم على كل مسلم أن يعمل ما وسعه العمل على تدعيم هذه الوحدة القومية وتوثيق هذه الرابطة الوطنية.
وإني لشديد الأسف لوقوع مثل هذه الحوادث التي لا يمكن مطلقًا أن تقع من الإخوان المسلمين, أو من أي مسلم أو مسيحي متدين عاقل, غيور على دينه ووطنه وقومه، والتي هي- ولا شك- من تدبير ذوي الأغراض السيئة, الذين يحاولون أن يصطادوا في الماء العكر، وأن يسيئوا إلى قضية الوطن في هذه الساعات الحرجة, والظروف الدقيقة من تاريخه.
ومن حسن الحظ أنهم لا يوفقون إلى شيء- ولن يوفقوا بإذن الله- ولم يعد أمر هذه الحوادث الصبيانية التافهة التي نأسف لها جميعًا, والتي أرجو أن نعمل جميعًا متعاونين على عدم تكراراها؛ صيانةً لهذه الوحدة الخالدة بين عنصرَي الأمة وبهذا التعاون المشترك يرد كيد الكائدين, وتعلو كلمة الوطنيين العاملين المخلصين.
وفَّق الله الجميع لخير ما يحب ويرضى, وهو نعم المولى ونعم النصير.
وتفضلوا يا صاحب الغبطة بتقبل تحياتي واحترامي
القاهرة مستشفى الروضة 17 جمادى الأولى 1366هـ، 9 أبريل 1947م"
التهانى بالأعياد
ولقد تبادل الإخوان والأقباط التهانيَ في الأعياد؛ فقد أرسل فضيلة المرشد العام إلى حبيب المصري باشا رئيس جمعية التوفيق القبطية البرقية التالية: "تلقيت بيد الشكر دعوتكم الكريمة لحضور احتفال النيروز المصري اليوم (الأربعاء)، وكان يسعدني أن أحضر بنفسي لولا أني مريض منذ يومين، وقد أنبت عني الأستاذ عبده قاسم سكرتير عام الإخوان المسلمين.. مع أطيب التمنيات".
فتلقى المرشد العام ردًّا من حبيب المصري جاء فيه: "أشكر فضيلتكم كل الشكر لبرقيتكم الرقيقة وانتدابكم سكرتير الإخوان لحضور حفل الجمعية داعيًا لكم بالصحة الموفورة".
وفي حديثٍ للأستاذ البنا مع مستر سبنسر المراسل الحربي الأمريكي وجَّه إليه المراسل سؤالاً حول وضع الأقليات غير المسلمة في بلد إسلامي، وهل يحاربون أو يلزمون بدفع الجزية، فأوضح له الأستاذ البنا أن نظرة الإسلام لهذا الموضوع نظرة التسامح الكامل والوحدة؛ فقد قال الله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: من الآية 8)، هذا إلى جانب الروح العام في الإسلام لتقديس الأديان جميعًا يجعلنا لا نشعر بوجود مسلمٍ وغير مسلم، بل الجميع يتعاونون على خير الوطن, وأن من يحاول فعل غير ما جاء من الإسلام حول علاقة المسلم بالقبطي؛ فهم ليسوا من الإخوان بأي حال من الأحوال.
ولقد أزاح الأستاذ لويس فانوس النائب القبطي بمجلس الشيوخ حقيقة علاقة الأقباط بالإخوان, وطلب من الحكومة التعاون مع جمعية الإخوان المسلمين؛ إذ إنها الهيئة الوحيدة التي تعمل على تنوير الأذهان وإيقاظ الوعي الشعبي في النفوس ونشر المبادئ السليمة والدين الصحيح والأخلاق الفاضلة.
كان ذلك موقف الأمام البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين من الأقباط، وكيف أنه تعامل معهم على أنهم من نسيج المجتمع، وأنهم والمسلمون يشكلون عنصرَي الأمة.
أضف تعليقك