وكما قالت سيدة الغناء العربي، كوكب الشرق "أم كلثوم": "كلمتين اتقالوا شالوا الصبر مني"، فقد شعرت أنه لا فائدة، عندما ذهبت إلى القناة الأولى المصرية، فقرأت في شريط الأخبار أن عبد الفتاح السيسي، الذي هو من المفترض رئيس جمهورية مصر العربية، يعزّي البابا تواضروس في ضحايا تفجير كنيستي "الغربية" و"الإسكندرية"، عندئذ وجدتني أتساءل عن الوضع الدستوري للبابا؟!
الدستور لا يرتب وضعاً للبابا، وقد كانت فرصته ليطلب وضعاً في دستور 2012 أيام الرئيس محمد مرسي، وكان سيستجاب له بسيف الحياء. والفرصة الأكبر لهذا الطلب كانت بعد الانقلاب، وهو جزء من مكوناته منذ البداية، لكن إقرار وضع له كان سيرتب وضعاً لآباء الطوائف الأخرى، وعندئذ تتساوى الرؤوس وهو يريد أن يبقى الوحيد - ولو شكلاً - المسؤول عن المسيحيين في مصر، وهو ما لا يمكن أن يرتبه النص على وضعه في الدستور، فمن الأفضل أن يترك لعملية الأمر الواقع بدون نصوص دستورية تعوق نفوذه، أو تدفع آخرين لمزاحمته أو شراكته في الأمر!
بحكم الأمر الواقع، فإن رأس الكنيسة الأرثوذكسية هو رئيس دولة المسيحيين في مصر، وفي الحد الأدنى هو رئيس الحزب المسيحي المصري، وهو وضع حصل عليه منذ عهد مبارك، واستمر إلى الآن
بحكم الأمر الواقع، فإن رأس الكنيسة الأرثوذكسية هو رئيس دولة المسيحيين في مصر، وفي الحد الأدنى هو رئيس الحزب المسيحي المصري، وهو وضع حصل عليه منذ عهد مبارك، واستمر إلى الآن، على النحو الذي لم يجعل منه أباً روحياً فقط ولكنه أصبح زعيماً سياسياً، هو المسؤول الأول عن الملف المسيحي، ويتقدم له السيسي بالعزاء في ضحايا التفجيرات، لأنهم مسيحيون والبابا هو ولي أمر المسيحيين في مصر، ليذكرنا هذا بكتاب "المسيحي" جمال أسعد عبد الملاك، "من يمثل الأقباط في مصر؟.. البابا أم الكنيسة"، وكان الكتاب في مواجهة البابا شنودة، مما وضع مؤلفه في خانة العداء له، فمنعه من دخول الكنائس والأديرة، لأن البابا لم يكن يرحم أبداً معارضيه، وإن تابوا وأنابوا وتقربوا إليه بالنوافل، كما الراحل ميلاد حنا، كما أن الموت وجلاله، لم يكن يسقط الخصومة عنده، وشاهدنا كيف منع الصلاة على القس المعارض له "إبراهيم عبد السيد"، ولم يرحم توسلات أسرته، ورفض وساطة الدكتور سعد الدين إبراهيم الذي اتصل به هاتفياً، وكان البابا في أمريكا، وفي النهاية تم فتح كنيسة إنجيلية للصلاة عليه، في مشهد حزين!
الوضع الحالي للبابا، تكرس -إذن - في عهد مبارك، دون أن ينتقده أولئك الذين يتعاملون على أنهم دعاة للدولة المدنية، وفي الحقيقة أن نظام مبارك استلم البابا وهو في حالة رضوخ، بعد تجربة قاسية في عهد السادات، إذ تكمن المشكلة بينهما في أن البابا شنودة زعيم سياسي ضل طريقه للدير، وكان مثله الأعلى هو الزعيم الوفدي "مكرم عبيد"، الذي كان البابا يردد الكثير من مقولاته ومنها مقولة "إن مصر وطن يعيش فينا وليست وطناً نعيش فيه".
وليس صحيحاً ما هو شائع من أن الخلاف بينهما كان بزيارة السادات للقدس، فقد أرسل شنودة رسالتين للسادات يبارك فيهما زيارته ومواقفه، لكن كان بينهما نزاع على الاختصاص: من يمثل الأقباط؟.. الدولة أم الكنيسة؟!
وسرعان ما دب الخلاف والتصعيد من الجانبين، وفاجأ السادات الجميع بعزل البابا وتعيين لجنة بابوية، وبما يخالف قوانين الكنيسة، وتم التحفظ عليه في أحد الأديرة ضمن قرارات التحفظ التي صدرت في سبتمبر 1981!
وعندما جاء مبارك للحكم، لم يقرر عودة البابا إلى موقعه كما كان متوقعاً، فإذا كان قد جرى اختياره رئيساً في أكتوبر 1981، فإن عودة البابا تمت بعد ذلك بثلاث سنوات، والتأخر في صدور قرار العودة سببه أن شنودة طلب من مبارك إصدار قرار جمهوري بإلغاء قرار السادات، واعتباره من عدم وكأن لم يكن، لتجاوز الرئيس السابق صلاحياته باتخاذه قرار العزل، بيد أن مبارك وإن كان يفتقد للقدرات الخاصة التي تؤهله لإدارة ملف كهذا، مع شخصية بحجم البابا وقدراته السياسية، فقد ورث دولة السادات وفي هذه الدولة وجد ساسة كبار مثل فؤاد محيي الدين رئيس الحكومة!
وقد انتصر النظام في هذه الحرب الباردة، وأعاد مبارك شنودة إلى كرسيه البابوي بقرار منه، بما يحمله من دلالات أهمها أن من يملك التعيين يملك العزل، ليتم تدشين علاقة جديدة، يسلم فيها النظام للبابا بزعامته السياسية في محيطة المسيحي، ويستفيد النظام من هذه الزعامة بأن يجد المسيحيين وبقرار من البابا معه استراتيجياً، ففي أي انتخابات، رئاسية، أو برلمانية، أو بلدية، أو نقابية، فإن الصوت المسيحي هو لمرشح السلطة وحزبها الحاكم، حتى وإن كان المرشح المنافس مسيحياً، كما حدث عندما رشح حزب التجمع "اليساري" مسيحياً في إحدى دوائر محافظة المنيا، وكما حدث ورشح حزب "الوفد" طلعت جاد الله المتحدث الإعلامي باسم البابا سابقاً في إحدى دوائر شرق القاهرة ضد المرشح القديم للحزب الوطني الدكتور حمدي السيد!
وفي الأداء اليومي، فإن هذا لا يمنع من حدوث شد وجذب، فقد كان البابا شنودة مقتنعاً تماماً أن تفجير كنيسة "القدّيسين"، ليس من فعل الإرهابيين ولكنه عمل من أعمال الدولة البوليسية
في المقابل فإن مبارك عندما يقدم على تعيين مسيحيين في بعض الهيئات فإن الاختيار يكون بيد البابا، وإذا كان اعتناق زوجات القساوسة للإسلام يحدث أزمة كنسية عنيفة، فقد كان اتصالاً من البابا لرئيس الديوان الرئاسي زكريا عزمي كافيا لإنهاء الأزمة، فقد حدث أكثر من مرة أن تم تسليم الكنيسة هؤلاء مثل "وفاء قسطنطين" زوجة كاهن البحيرة، و"كاميليا شحاتة" زوجة كاهن المنيا، ورغم أن جهاز أمن الدولة كان دائماً مع حقهن في اعتناق الإسلام، لكن عندما تتدخل الرئاسة في أي ملف فإن القرار الأمني يكون بلا قيمة!
قرارات التسليم، كانت تعني أن الدولة المصرية قد تنازلت عن فريق من المصريين، وتعاملت معهم على أنه رعايا لدولة أخرى هي دولة البابا، الذي كان يقضي بسجن هؤلاء النسوة في الأديرة، في انتهاك صارخ لحقهن في الحياة، وبدون أن تلفت هذه الإجراءات المنظمات الحقوقية، أو يرى فيها رجال القانون انتهاكاً لدولة القانون، أو جوراً على قيم الدولة المدنية!
وفي الأداء اليومي، فإن هذا لا يمنع من حدوث شد وجذب، فقد كان البابا شنودة مقتنعاً تماماً أن تفجير كنيسة "القدّيسين"، ليس من فعل الإرهابيين ولكنه عمل من أعمال الدولة البوليسية، وعندما غضب على طريقته وذهب للاعتكاف في الدير، كان رأي مبارك، أنه حتى إذا كان الأمر كذلك، فليس للبابا أن يغضب فرصيده لديه يسمح، وقد رد عليه بطريقته أيضاً، وكان يجيد "المكايدة" فعيَّن خصمه جمال أسعد عبد الملاك، عضواً في البرلمان، ضمن العشرة الذين يعينهم رئيس الجمهورية!
كان جمال أسعد عبد الملاك في هذه الفترة عضواً في حركة "كفاية" التي تمارس المعارضة الجذرية لنظام مبارك وترفض التمديد له في الحُكم كما ترفض التوريث، ومع ذلك فكل هذا جرى تجاوزه للرد على تصرف البابا، وفي واقعة مماثلة عين مبارك محافظاً مسيحياً لمحافظة قنا ضج المسيحيون من تعسفه ضدهم، والذي قرر من أول يوم عدم استقبال المسؤولين عن الكنيسة بالمحافظة في مكتبه، على أساس أن دورهم روحي وفقط!
كان المسيحيون يقولون لو كان من الإخوان لكان أفضل لهم، ومالا يستطيعون قوله، لحسابات خارجية، أنه ينتمي للكنيسة الإنجيلية! وإذا كانت هذه هي سياسة العصا، فقد قدم مبارك الجزرة، بأن شكل لجنة لتعديل قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين حيث يحول اختلاف الكنائس دون تعديل القانون الحالي، وكانت الهيمنة هنا للكنيسة الأرثوذكسية، التي كانت تستغل الموقف والاستفادة من تفجير كنيسة "القدّيسين" بهذا القانون الاستراتيجي، وقد انسحب من اللجنة بعض ممثلي الكنائس والطوائف الأخرى احتجاجا على تعنت القوم، الذين كانوا يعلمون أن القانون ثمن لهذا التفجير وأن لهم اليد العليا. ولم يكن قد تم الانتهاء من القانون عندما داهمتهم الثورة!
إن الوطن يدفع من لحمه الحي ثمناً لزعامة تواضروس، بعد اعتقادنا أن الزعامة انتهت بوفاة البابا شنودة! لكن، وكما تقول "شيرين آه يا ليل": "جرح تاني؟!"
وهذه الخلافات التكتيكية، لم تدفع البابا للانتقام من حليفه الاستراتيجي، فعندما قامت الثورة أمر رعاياه بعدم المشاركة فيها وقال بصريح العبارة: "نحن مع مبارك"، وعندما تنحى زاره أكثر من مرة في محبسه! وبعد وفاته تم اختيار تواضروس مكانه، وهو يفتقد لمقومات شنودة السياسية ومهاراته الخاصة وطموحه السياسي، لكنه وجد الزعامة السياسية تناديه، فلبى النداء!
كان هذا النداء من قِبَل الثورة المضادة، وكالكنيسة كما الأزهر من مكونات الدولة العميقة، ولن أنسى مشهد الرُهبان في ميدان التحرير وحول القصر الجمهوري يوم حصاره في عهد الرئيس محمد مرسي، الذي كان حكمه يفتقد اللياقة السياسية في التعامل مع هذا الملف فأخذ بالظاهر منه، وقلَّد مبارك في تفويض البابا في اختيار أسماء المسيحيين للتعيين في مؤسسات الدولة مثل مجلس الشورى، والمجلس القومي لحقوق الإنسان، والمجلس الأعلى للصحافة، بالطلب من البابا أن يختار هو المسيحيين، دون ثمناً لاستمرار سياسة مبارك، التي تتلخص في أن البابا هو رئيس دولة المسيحيين أو رئيس الحزب المسيحي المصري!
لقد استعانت الثورة المضادة بالبابا في الحشد يوم 30 يونيو، وفي يوم الإعلان الرسمي عن الانقلاب كان البابا في المشهد، ولم تتأذ أعين دعاة الدولة المدنية لهذه الصورة! واللافت أن هذه "الزعامة" الممنوحة لتواضروس تأتي في ظروف مختلفة عن زمن البابا شنودة، فقد مكَّن السيسي من أن يجعل من المسيحيين أسرى لطموحه وجنوحه في أن يكون رئيسا، فلم يطالب بتحقيق شفاف في عمليات تفجير الكنائس ومن أول كنيسة "القدّيسين" في عهد المخلوع، ومروراً بالكنيسة "البطرسية"، ومن المؤكد أنه لن يفعل مع تفجير كنيستي محافظتي "الغربية" و"الإسكندرية"!
إن الوطن يدفع من لحمه الحي ثمناً لزعامة تواضروس، بعد اعتقادنا أن الزعامة انتهت بوفاة البابا شنودة! لكن، وكما تقول "شيرين آه يا ليل": "جرح تاني؟!"
أضف تعليقك