كثيرٌ منا أراد أن يعمل في وظيفة اختارها بنفسه، إما عن طريق الدراسة، وإما عن طريق الالتحاق بسوق عملها مباشرة، وسواء كانت هذه الطريقة أو تلك، يبقى الهدف الأساسي من اختيارك لنوع العمل الذي ستقضي فيه أكثر من ثلثي عمرك هو الحفاظ على الشغف حيًّا ومُتجددًا.
لكن الكثير من الوظائف قد لا تُنمّي قُدراتك الإبداعية، ولا تساعدك على زيادة شغفك تجاهها. وإن لم يزدد شغفك، فلا شك أنّه سيقل تدريجيًّا مع الوقت، ويصبح الذهاب إلى العمل من أصعب القرارات التي عليك أن تتخذها كل يوم، خاصةً إذا كنت تعمل في وظيفة لا تكتفي بإفقادك الشغف، وإنما تُصيبك بالاكتئاب، مثل هذه الوظائف:
1. المُحاسبة
أرقامٌ في كل مكان، وكبسة زر خاطئة قد تُساوي مئات الآلاف من الأموال، والاهتمام بثروات الآخرين، كُل هذا يُشكِّل عبئًا نفسيًّا وعاطفيًّا صعبًا على العاملين في مجال المُحاسبة والمالية، حتى وإن كان اختياره لهذه الوظيفة نابعًا مِن حُبه لها، إلا أن هذا الحب يقل مع الوقت، بسبب التوتر الناتج عنها، والدقّة اللامُتناهية، وكل هذا قد يُودي بأصحاب هذه الوظيفة إلى اكتئاب نفسي بدرجات مُتفاوتة تصل إلى 6%.
2. التدريس
قد يكون التدريس من الوظائف التي يستطيع أصحابها لمس ما قدموه من تغييرات على المدى القصير، لكن على الرغم من ذلك، يُعد التدريس من أكثر الوظائف جلبًا للتوتر، لأسباب كثيرة جدًّا من أهمها: الاضطرار إلى التعامل مع الأطفال أو المراهقين، مما يتطلّب مجهودًا بدنيًّا وذهنيًّا ضخمًا، ومحاولة شرح كُل تفصيلةٍ إلى أولياء الأمور الذين يغضب بعضهم من طريقة المُدرِّس، وأيضًا التعامل بشكل يومي مع إدارة المدرسة لتحقيق أهدافها. يجتمع كل ذلك مع العودة إلى منازلهم بواجبات وامتحانات لتصحيحها، ومُرتّبات ربما تكون متوسطة أو أقل من متوسطة.
كُل هذا قد يصيب المدرس بتوتر، وربما يصل إلى حد الاكتئاب أيضًا بعد فترة من الوقت يصل مُعدله بينهم إلى 8,7% تقريبًا إذا لم يجد عائدًا مُناسبًا، أو إذا نسي لماذا اختار هذه الوظيفة من البداية.
3. المبيعات
بابتسامةٍ تعلو وجوههم، وكلمات مُنمّقة ومُرتّبة، يُقابلك العاملون في المبيعات، لكن خلف هذا المظهر يكمُن القلق المُتمثِّل في عدم معرفتهم متى سيتحصّلون على مرتباتهم، أو بالأحرى: كم من المال سيستطيعون جمعه هذا الشهر، وذلك لأنهم دائمًا يعملون لتحقيق هدف ما في المبيعات، فإن لم يستطيعوا، فسيحصلوا على أقل القليل. يُساعد في القلق المُلازِم لهم دائمًا الوضع الاقتصادي المُتردّي، الذي جعل حركة البيع والشراء في كساد جزئي. أضِف إلى ذلك تعامُلهم مع زبائن ومُشترين لا يعرفون ماذا يُريدون تحديدًا، ورُبما يتراجعون قبل إتمام الصفقة بدقائق بسيطة. رغم أن هذه المهنة قد يكون لها في بعض الأحيان عوائد مالية جيّدة، إلّا أنها أيضًا تستطيع أن تقودك إلى الاكتئاب بسهولة بنسبة تتراوح بين 7 و10%.
4. الأعمال الإبداعية
التمثيل والكتابة والرسم من الوظائف التي لا يمتهنها الشخص إلا إذا كان ذلك قرارًا نابعًا منه، ولا يعني كون الأعمال الإبداعية تُصيبك بالاكتئاب على المدى الطويل أن الإبداع خطر على صحتك النفسيّة، ولكن السبب الرئيسي قد يكون لأن هذه الوظائف لا تكون مُربِحة ماديًّا بقدر التعب والجُهد الذي يُبذل فيها، وأيضًا لأنها تتطلّب قدرًا كبيرًا من الوحدة والعزلة التي تُساهم بشكل رئيسي في اكتئاب تصل نسبته إلى 9%. حتى إذا ظننت أن المعروفين من المُبدعين يتقاضون مئات الآلاف ورُبّما الملايين، فذلك لا يعني أن هذا هو حال غير المشهورين منهم.
5. العمل الاجتماعي
هل سبق وأن أردت التواصل مع مؤسسة غير ربحية لتعليم أطفال الشوارع، أو رُبّما لإعانة الأسر المحتاجة، أو لتقديم العون للمحاصرين في الحروب والكوارث؟ إذا كانت الإجابة نعم، فحتمًا ستُدرك كَم المُعاناة التي يلقاها العاملون في هذه الجمعيّات والمؤسسات، فما رأيته أنت على شاشات التلفاز من أسر محتاجة أو أطفال جوع أو نساء يتعرّضن للعنف الأسري، يُعايشونه هم يوميًّا وعلى الحقيقة، لذلك لا عجب أن يكون العاملون في هذه الوظائف من أكثر الناس عُرضة للاكتئاب بنسبة تصل إلى 9,5% بسبب اهتمامهم بالصحة النفسية للغير أكثر من أنفسهم.
6. الرعاية الصحية
ساعات طويلة من العمل المتواصل، رُبّما تصل لأيام دون الحصول على قسط من النوم.. هذا هو حال الأطباء والممرضات.
نُشاهدهم في المسلسلات الدرامية بحياة اجتماعيّة مُثيرة، ومظاهر جذابة، ورُبما رواتب خيالية، لكن هذا هو جانب واحد من القصة. الجانب الآخر المظلِم من هذه الوظيفة هو احتكاكهم بالمرضى في كل أوقات العمل تقريبًا، إما لتشخيص وإما لإجراء عمليات جراحية، وإما لإبلاغ أحدهم بفقدان ذويه أو أقاربه، وهذا المُناخ يُعطيهم إحساسًا بأن العالم مكانٌ حزين، وينتقل إليهم الحُزن مُمهِّدًا لاكتئاب تصل نسبته بينهم إلى 9,6% تقريبًا.
7. النقل العام
هل يُصيبك التوتُّر جرّاء التواجُد في أماكن مُكتظة بالبشر؟ ماذا لو كان عليك أيضًا أن تتعامل معهم بشكل مُباشر؟ لا شك في أن يُصبح العاملون في هيئات النقل العام، مثل السائقين ومُحصّلي التعريفة، مُعرّضين لنسبة اكتئاب تصل إلى 12%، لاضطرارهم يوميًّا إلى التعامل مع رُكّاب مُنعدمي الذوق، أو أصحاب سلوك فظّ، ومع ذلك عليهم تحمُّل ذلك بصدر رحب. أضِف إلى ذلك تعرُّضهم في أحيان كثيرة إلى السرقات والمتاعب خاصةً في الرحلات المسائية.
كُل ما سبق لا يعني أبدًا أن نُقرر تَرك وظائفنا والبحث عن وظائف أخرى، لأن لكل وظيفة همومها ومتاعبها التي تقتضيها واجباتها، خاصةً في بلاد انتشر فيها الإهمال والتخلُّف، لكن كُل ما نستطيع فعله هو أن نضمن ألا تختلط هموم عملنا بحياتنا الشخصية، وألا نجعل المشاكل تتسرّب إلى خارج العمل، وأن نُدرك أننا نعمل حتى نعيش، ولا نعيش حتى نعمل.
أضف تعليقك