أربع سنوات مرت، ونبيلان قيد السجن والتنكيل، وجزار يواصل تقطيع لحم مصر ووضعه في المفرمة، وفارغون يشتبكون في الهواء الطلق على أولوية محاربة طواحين الهواء، فينتعش نظام السيسي، ويموت المحترمون كمداً.
صدق عبد الفتاح السيسي، عندما قال عن مصر إنها ليست “طابونة”.
الطابونة تنتج الخبز، وتعرف شكلاً من أشكال العدل في تنظيم العلاقة بين المنتج والمستهلك.. بينما دولة السيسي لا تنتج سوى العسف والقمع والإهانة.
هي "مفرمة" تفتح شدقيها، وتلتهم كل يوم مزيداً من البشر والقيم، وتملأ جوفها بالدماء، من دون أن تصل إلى الشبع أبداً.
دعك من حاكمٍ استولى على السلطة بالسلاح، يهدّد شعبه ويبتزّه ويضع يده في جيبه، كلما خطب، ولا تشغل بالك كثيراً بحالة السّعار التي تنتاب سلطةً تموّل فشلها وبلادتها ودمويتها من أرزاق البسطاء، فهذا مستقرٌّ وثابتٌ في سجل النظم الشمولية، منذ فجر التاريخ، حيث أنت ومالك وأبوك وابنك للقائد الضرورة، وسلطته التي تمارس إرهابا أيديولوجيا وبوليسيا على المجتمع، لصالح الأوحد الذي يفرض على جميع طبقات المجتمع طاعته إلى درجة العبادة على أساس أنه الوحيد الذي يفهم ويعرف مصلحة الأمة.
اسمح لي أن أقصّ عليك واحدة من حكايات المفرمة، بطلها الدكتور عبد الحي الفرماوي، أحد أهم أساتذة التفسير وعلوم القرآن، في مصر والعالم الإسلامي، العالم الجليل في زمن السفهاء الأدعياء، والذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي، من دون أن يودّعه ولداه، القابعان في مفرمة الجنرال منذ ثلاثة أعوام وعشرة أشهر، بلا جريمةٍ، سوى أنهما سلكا وفق ما تقتضيه قيم الإنسانية والتحضّر، في لحظةٍ كان مطلوباً فيها أن يتحوّل المجتمع كله إلى قطيع من الوحوش، خلف جنرال القتل والخراب.
قضى الرجل الذي رحل عن 75 عاما سنواته الأخيرة حزينا على ولديه القابعين في السجن ظلما، حزن يعقوب على يوسف، وكما تحكي أسرته، كان يقضي الليل ينادي على ولديه، ويتصل على أرقام هاتفيهما، على أمل أن يردّ أحدهما، حتى رحل في النصف من شعبان.
لا أعلم إن كان شيخ الأزهر قد أدّى واجب العزاء في أستاذه، أم أن الخوف من بطش السلطة كان أكبر من الواجب، ولا أدري ما إذا كانت المجامع العلمية والفقهية قد نعته، أم أنها كانت مشغولةً في ملاهي التكفير التلفزيوني.
ما أعلمه هو أن الرجل رحل، وولداه في عتمة سجون المفرمة، منذ اعتصام رابعة العدوية، بتهمة استعمال الضمير، والانتماء إلى الإنسانية، بمفهومها الحقيقي.
أعيد نشر الحكاية، كما عرفتها من رسالة قارئ محترم، في ذلك اليوم القائظ من يوليو 2013:
قالت الرسالة:
“أممسكوا بحرامي في اعتصام رابعة بعد صلاة الفجر، وكعادة الحشود عند وجود مثل هذه الحالات، أن تتصرّف بهمجيةٍ، وتنهال ضربا دون تفكير على الحرامي، وهو ما نراه تحت بيوتنا حتى عند القبض على حرامي، وليس بالضرورة في الاعتصامات، ولنبل أخلاق محمد الفرماوي وأخيه ومصطفى وهيثم وشهاب وأحمد، أبعدوا الناس عن الحرامي، وقرّروا إسعافه سريعا والمخاطرة بالذهاب به للمستشفى.
وبالطبع، رفض مستشفى التأمين الصحي ومستشفى آخر استقباله، وقام الشباب بالتواصل مع مستشفى البنك الأهلي بالتجمع الخامس من خلال دكتور صديق لهم، وأخبرهم أن يأتوا به وسيتصرف هو.
فى الطريق من رابعة للتجمع، أوقفهم كمين، ولأن الحرامي حرامي في النهاية، قال لهم إنهم من رابعة، وقطعوا إصبعه، لأنه معارض، وكانوا ينوون ضربه حتى الموت، ورميه فى الصحراء!”.
وبالطبع، لأن الأوضاع ملتهبة ضد كل ما يصدر من أى “إسلاميين” في هذه الأوقات، فالإعلام قرّر استغلال الحادث بشكل شرس وحيوانى، وتحول أولاد الدكتور الأزهري القدير عبد الحي الفرماوي إلى عناصر حماسية جهادية، تحمل الجنسية الفلسطينية! وتحوّل هيثم العربي الرجل النظيف الفاعل دوما للخير والنشيط فيما ينفع الناس إلى شخصٍ قاس القلب متحجّره، يستخدم لغة القتل والعنف لتأديب معارضي فكره!
أقسم بالله أني أعرف هؤلاء الرجال معرفةً وطيدة، وتعاملت معهم لسنوات، ولم أر منهم إلا الخير والإحسان والشعور بالناس، وإن كنت تشكّ في فكرهم، وأنه يمكن أن يكون فكر قتل وعنف، فأنا أؤكد لكم أنهم ليسوا كذلك، واللهِ ليسوا كذلك..
رأيتهم البارحة في قسم أول التجمع الخامس، وكانوا يعدّوهم للترحيل، والله قلبي اعتصر ألما لرؤيتهم في الأصفاد ظلما، ورأيتهم يدفعون ثمنا لشهامتهم وقلوبهم الحية، علمت أنهم اليوم فى سجن طرة، وأن المحاكمة يوم الإثنين! ويحتاجون فريق دفاع قوي، فبالله عليكم من يعرف طريق محامين جنائيين محترفين يرسل لي.
وأرجوكم انشروا القصة، انشروها على ضمانتي، لا نريد أن يدفع أبرياءٌ ثمن الشيطنة الإعلامية، وثمن نبل أخلاقهم، وإن اختلفتم مع فكرهم وتصرفاتهم”.
انتهت الرسالة، ولم تنته المأساة: أربع سنوات مرت، ونبيلان قيد السجن والتنكيل، وجزار يواصل تقطيع لحم مصر ووضعه في المفرمة، وفارغون يشتبكون في الهواء الطلق على أولوية محاربة طواحين الهواء، فينتعش نظام السيسي، ويموت المحترمون كمداً.
أضف تعليقك