ورد في الأمثال: «خليك مع الكذاب حتى باب الدار»، وعليه فسوف نساير الكذاب حتى يبلغ مأمنه!
سنصدق أن قصف عبد الفتاح السيسي للمدن الليبية إنما يقصد به الردّ على جريمة اغتيال عدد من المسيحيين في محافظة المنيا، وسوف نتجاوز عن أن المدينة الأولى التي تم قصفها بواسطة الجيش المصري، وبأمر من المذكور، وهي «درنة» قد طردت مسلحي داعش، وأوقعت بهم هزيمة كان ينبغي على المجتمع الدولي أن يوجّه لها الشكر بسبب ذلك، إن كان بالفعل معنياً بعملية مواجهة الإرهاب، لا أن يعطي الإذن لعبد الفتاح السيسي بقصفها، وقد نسب لمسؤولين مصريين قولهم إن عملية القصف تم استئذان البيت الأبيض فيها!
وسنتجاوز كذلك أن الموافقة السيساوية على بناء سد النهضة، هى جزء من مؤامرة تخدم المصالح الإسرائيلية، ولهذا فقد وقع عبد الفتاح السيسي على اتفاق المبادئ على بناء السد دون أية ضمانات، ودون أن يضمن لمصر حصتها التاريخية من ماء النيل، بل إنه لم يضمن لها قطرة مياه واحدة، على النحو الذي ذكره خبير السدود السوداني، الدكتور أحمد المفتي، الذي استقال من اللجنة الدولية للسدود، لأن ضميره تأذى من أن يكون جزءاً من المؤامرة على المنطقة!
سنتجاوز أيضاً عن أن هناك فرصة كانت مواتية لإبطال الاتفاق بعد توقيع السيسي عليه، إن لم يكن مدركاً لطبيعة المؤامرة ساعة توقيعه، فقد كانت لدى برلمانه سلطة إلغاء الاتفاق، ليكون البديل هنا هو اللجوء للتحكيم الدولي، وهو مهما كانت نتائجه، فلن يحرم مصر من ماء النيل وقد حرمها منه الاتفاق - الجريمة!
نحن نعلم، والجنين في بطن أمه يعلم، أن المستهدف من توقيع اتفاق المبادئ بدون ضمانات، هو توصيل المياه إلى إسرائيل بحكم المضطر، وضمان استمرار تدفقها بعد رحيل السيسي، وقدرتها على منعها كلية إن جاء حاكم وطني، لا يوافق عليه القوم في تل أبيب. والشاهد أن الاتفاق لم يحدد سعة السد ولم ينصّ على سنوات الملء، وسعته الحاليّة تمكنه من أن يستحوذ على كامل حصة مصر والسودان، فإن قرّرت أثيوبيا قطع المياه عن مصر، فإن البديل المقرّر هو أن تطلب المحروسة وساطة إسرائيل، عندئذ يكون شرط التحرّك الإسرائيلي هو وصول المياه عبر مصر إليها!
وخطورة فعلة السيسي، أن الله لو أكرم مصر ولو بصلاح الدين الأيوبي مثلاً، فلن يستطيع على شجاعته أن يفعل شيئاً، عندما يتم الانتهاء من بناء السد، لأن قصفه سيترتب عليه غرق مصر والسودان معاً!
بيد أننا سنتجاوز عن جانب المؤامرة الضالع فيها عبد الفتاح السيسي، وسنسلم بما يروج له الإعلام السيساوي من أن أثيوبيا تتحدى مصر، وتستغل مرحلة ضعفها الحالية، وهي النغمة الشائعة، لدرجة أن الدعاية تدور حول أن أي استثمار خليجي (قطري بالأساس) في السودان إنما هو مؤامرة مع الخرطوم ضد مصر في معركتها مع أثيوبيا، مع أنه لا معركة هناك ولا يحزنون، والثلاثي: الرئيس السوداني، والرئيس الأثيوبي، وعبد الفتاح السيسي، احتفلوا بتوقيع اتفاق المبادئ، وعاد السيسي من هناك، بدعاية قامت بها صحف الموالاة عبر عنها «مانشيت» جريدة «اليوم السابع»: «السيسي حلها»، وطلب هو من الجميع الصمت، وأن نضع ثقتنا فيه لأنه ليس متآمراً، ولم يعرف المؤامرة، ويومها كنت في دهشة لذكر المؤامرة في الموضوع، ولم أكن قد اطلعت على الاتفاق ودلالته، فيكاد المريب أن يقول خذوني!
ما علينا، فليست هناك خصومة مع السيسي وأثيوبيا، كما يروّج الإعلام السيساوي، فالسيسي نفسه طلب من وزير الري الأسبق أن يسكت، في رسالة عبر خطاب معلن بدا فيها أنه يكلم القوى الغيبية، وإن كنت أعلم من يعني، وفي النهاية لم يجد بداً من سجن هذا الوزير، والتهمة الجاهزة في مثل هذه الأحوال هي الفساد، وكان الوزير يحذّر من جريمة توقيع اتفاق المبادئ.
لا بأس، فكما أن لديّ رغبة في تجاوز حقيقة الموقف فيما يختصّ بقصف المدن الليبية، فإن رغبتي أكيدة في تجاوز الجانب التآمري في موضوع سد النهضة، وسأسلم بأن أثيوبيا تتحدى مصر باستمرارها في بناء السد، دون أن تقدم ضمانات بحصة مصر التاريخية من نهر النيل أو جزء منها!
ليطرح هذا سؤالاً: أيهما أولى بالقصف: ليبيا أم سد النهضة؟!
لقد كان الخيار العسكري مستبعداً دائماً في أي ملف، وإذا كان الرئيس محمد مرسي عندما أثيرت قضية سد النهضة في عهده قد ذكر أن جميع الخيارات مفتوحة للحفاظ على ماء النيل، فقد علق الراحل محمد حسنين هيكل مندهشاً: لا يوجد أمامه إلا خيار واحد وهو التفاوض، معتبراً الحديث عن الخيارات المفتوحة أنها تعني العمل العسكري المنهي عنه!
لقد كنا حينئذ في مرحلة الابتزاز السياسي، وخصوم الرئيس طالبوه بأن يكون شجاعاً وألا يستبعد الخيار العسكري، وعندما قال بالخيارات المفتوحة كان رد هيكل بهذا الشكل، وبعض القادة العسكريين المتقاعدين قالوا في دهشة: إنه يريد منا أن نحارب. وكأن مجرد التفكير في عمل عسكري، أو التلويح به، جريمة، وكأن الجيوش أنشئت لتصنع ألبان الأطفال؟!
الذين أخذوا على مرسي الحديث عن «الخيارات المفتوحة»، اختفوا الآن، وبعضهم يتعامل مع قصف المدن الليبية على أنه موقف شجاع لا يقوم به إلا من له خلفيّة عسكرية!
فما هو الأكثر ضرراً: الإرهاب، ونحن نسلم جدلاً أنه قادم من ليبيا، أم سد النهضة؟!
الإرهاب راح ضحيته ثلاثون شاباً مسيحياً، قتل مثلهم عبد الفتاح السيسي أمام ماسبيرو، وفي النهاية فإن يقظة أمنية كفيلة بأن تتدارك آثاره لا سيما أن الإرهاب مستورد من ليبيا، ولم تفرزه التربة المصرية. إذا سلمنا بكل ما قيل!
أما سد النهضة، فلن يكتفي بقتل ثلاثين شاباً ولكنه سيقتل مصر كلها، وسيرهن إرادتها السياسية والوطنية لدى حكام تل أبيب إلى يوم يبعثون.
ألا وقد أصبحت العمليات العسكرية، مدعاة للفخر، فالسؤال هو أيهما أولى بالقصف: المدن الليبية، أم سد النهضة؟!
فليجبنا أصحاب الخلفيّات العسكرية!
أضف تعليقك