الحملة التي شنتها جهات ووسائل إعلام سعودية وإماراتية وسط صمت أمريكي أوروبي ضد قطر مؤخرا لا تستهدف مجرد الإضرار بدولة قطر، ولكنها تستهدف ما وراء هذه الدولة الصغيرة حجما الكبيرة دورا.
الأدوار الكبيرة التي تقوم بها قطر في السياسة الإقليمية والدولية، ونجاحها في العديد من الوساطات والتسويات لبعض النزاعات أصبحت تثير غيرة وحقد كلا من النظامين السعودي والإماراتي، فالسعودية التي تعد عاصمة القرار الخليجي التي تعد الأخ الأكبر أو شيخ القبيلة الخليجية لا تستسيغ تلك الأدوار الكبيرة لقطر التي تتم غالبا دون تشاور مع الرياض، كما أنها لا تستسيغ ما تعتبره تمردا قطريا على زعامتها للمنطقة.
تتسم السياسة السعودية عادة بالهدوء والبعد عن الانفعال، وتحرص على حل المشاكل الخليجية بالذات بروح أخوية خليجية، لكنها خرجت عن هذا السياق مرتين في الفترة الأخيرة أحدثهما الأزمة الحالية، بينما كانت أولاهما في آذار/ مارس 2014 فيما عرف بأزمة سحب السفراء من الدوحة التي شملت سفراء السعودية والبحرين والإمارات.
وكانت تلك الأزمة بسبب مطالبة السعودية وحلفائها لقطر بوقف دعم الإخوان المسلمين وطرد قياداتهم من الدوحة، وادعت العواصم الخليجية الثلاث حينذاك أن هذا الدعم القطري للإخوان يمثل تهديدا للأمن القومي الخليجي وهو ماردت عليه قطر، معتبرة أن الخطوة التي أقدمت عليها الدول الثلاث "لا علاقة لها بمصالح وأمن واستقرار الشعوب الخليجية، بل باختلاف في المواقف حول قضايا خارج مجلس التعاون الخليجي".
وأكدت أنها لن تقوم بالمقابل بسحب سفرائها، وظلت الدوحة على موقفها حتى نجحت وساطة كويتية في إعادة السفراء نهاية آب/ أغسطس 2014، وهو ما يذكر بأزمة سابقة سحبت فيها السعودية سفيرها من الدوحة عام 2002 احتجاجا على السياسة التحريرية لقناة الجزيرة، ولكن السفير عاد بعد 6 أشهر.
رغم أن عودة السفراء بدت كما لو أنها تمت دون مقابل في تلك اللحظة، إلا أن من الواضح أن ثمة اتفاق لم يعلن تعهدت بموجبه الدوحة بإبعاد عدد من قادة الإخوان المسلمين وغلق قناة الجزيرة مباشر مصر، وتم تنفيذ الجزء الأول الخاص بإبعاد قادة الإخوان السبعة يوم 13 أيلول/ سبتمبر 2014، أي بعد حوالي أسبوعين من عودة السفراء.
لكن الدوحة ظلت تتلكأ في إغلاق الجزيرة مباشر مصر، وهو ما أحدث أزمة جديدة مكتومة هذه المرة وإن صحبها تهديدات أمنية لقطر التي اضطرت في النهاية لغلق الجزيرة مباشر يوم 22 كانون اول/ ديسمبر 2014.
وكانت قناة الجزيرة مباشر مصر مدفعية ثقيلة ضد سلطة الانقلاب في مصر، وكان إغلاقها مطلبا دائما لتلك السلطة من كفلائها الخليجيين، وكان يوم إغلاقها عيدا كبيرا لهم.
وخسرت قطر سلاحا إعلاميا قويا كان كفيلا برد الصاع صاعين للمتطاولين عليها في الحملة الأخيرة خصوصا في وسائل إعلام السيسي.
وكانت خطوة الدوحة بإبعاد قادة الإخوان السبعة، ومن بعدها غلق قناة الجزيرة مباشر، تبدو مفهومة في ضوء الضغوط الشديدة التي تعرضت لها الإمارة من محيطها الإقليمي القادر على إيذائها، وحصارها، لكن كان من الواضح أيضا أنها حرصت على تنفيذ ما طلب منها في أضيق نطاق ممكن تجنبا لقطيعة مع جيرانها أو ربما لحرب غير متكافئة معهم.
في أزمة 2014، كما في الأزمة الحالية، حشد خصوم قطر كل ماكيناتهم الإعلامية المحلية والإقليمية والدولية ضد الدوحة، وعمدوا إلى شيطنتها، وسعوا لتهيئة الرأي العام فيها لقبول فكرة الانقلاب على أميرها، وراحوا يلمعون بعض الشخصيات القطرية المعارضة في القاهرة، ويفبركون العديد من القصص والحكايات عن تدهور الأوضاع في قطر.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فالتحركات ذاتها تتم حاليا، ولكنها تزداد خسة عبر اختراق منظم لموقع وكالة الأنباء القطرية الرسمية (قنا) وتلفيق تصريحات سياسية، ونسبتها لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد من شأنها أن تكدر علاقة بلاده بجيرانها من دول الخليج.
ورغم النفي الرسمي القطري، والتأكيد بأن موقع الوكالة جرى قرصنته، إلا أن الأبواق الإعلامية للسعودية والإمارات ظلت تردد التصريحات الملفقة، بينما خرست هذه الأبواق عن نقل محض خبر عن اختراق قراصنة روس لبريد السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، وهو أحد مهندسي العمليات القذرة في المنطقة، وأحد أبرز صانعي وداعمي الثورات المضادة في دول الربيع العربي.
ويجدر القول إن اختراق هذا الإيميل بدا عملا تقنيا تجاريا يستهدف التربح المالي من خلال بيع التسريبات لمن يدفع أكثر، بينما كان اختراق موقع الوكالة القطرية عملا سياسيا قبل أن يكون تقنيا، وستكشف التحقيقات التي تجري حاليا وتشارك فيها المباحث الفدرالية الأمريكية عن هوية المخترقين الذين لن يخرجوا عن الفلك الإماراتي السلماني السيساوي.
الحملة الحالية على قطر لا تستهدف مجرد النيل منها، أو تشويهها، ولكنها تستهدف قصقصة أجنحتها التي تغرد بها بعيدا في السياسات الإقليمية والدولية.
فهناك صفقة تاريخية يجري التمهيد لها، التي وصفها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بصفقة القرن، وهي صفقة تتركز على تسوية للقضية الفلسطينية عبر مبادلات أراضي مصرية فلسطينية وتمويلات خليجية وإدماج إسرائيل في المنطقة.
والمطلوب ألا تعلو أصوات فوق صوت هذه الصفقة، بل ينبغي تمهيد الأجواء الإعلامية والسياسية تماما لتقبلها وتسويقها عبر كل المنابر الإعلامية، ويدرك صناع تلك الصفقة أن قطر ليست جزءا من صفقتهم، وأن قناة (الجزيرة) ستفضح طبختهم.
ولذا لزم إخراس هذا الصوت، كما يدرك صناع تلك الصفقة أن المعارضة الشعبية لهذه الصفقة ستكون واسعة، وسيكون في القلب منها جماعة الإخوان المسلمين الممتدة عبر جميع عواصم المنطقة العربية وغيرها من العواصم.
ولذا فإن المطلوب هو الإجهاز على هذه الجماعة تماما، وقطع أي تسهيلات لها، ويظن صناع الصفقة أن قطر وتركيا توفران هذه التسهيلات، بالتالي فمن المهم ممارسة أكبر ضغط عليهما لوقف هذه التسهيلات وطرد عناصر الإخوان من أرضهما.
جرب هؤلاء المتآمرون حظهم مع تركيا عبر انقلاب فاشل، وأكدت الوثائق التي تم تسريبها من بريد السفير الإماراتي في واشنطن عن الدور الإماراتي المالي والسياسي في دعم تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة، ومع تواصل الضغوط على تركيا.
فلا مانع لديهم من تجربة انقلابية جديدة مع قطر، ومن الواضح أنها فشلت أيضا حتى الآن على الأقل.
أضف تعليقك