في مثل هذه الأيام من شهر رمضان المبارك من العام الثاني للهجرة النبوية وقعت غزوة بدر الكبرى أول مواجهة شاملة بين المسلمين وبين المشركين ورغم أن جيش المشركين كان ثلاثة أضعاف جيش المسلمين إلا أن الله سبحانه وتعالى أنزل ملائكته ليثبت الذين آمنوا ونصر جنده، وكانت غزوة بدر الكبرى بداية لتأصيل الجهاد والقتال والمواجهة مع أعداء الإسلام في نفوس المسلمين، كما أنها كانت بداية لأول موكب من مواكب الشهداء حيث استشهد في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، ومنذ غزوة بدر ومعركتها حتى الآن ومواكب الشهداء لم تتوقف باذلة أرواحها في سبيل هذا الدين.
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين الإسلام والجاهلية بين التوحيد والوثنية بين جند الله وبين جند الطاغوت؛ جند الله بقيادة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجند الطاغوت بقيادة أبي جهل وأمثاله من فراعنة الجاهلية، كانت هذه المعركة معركة في حجمها وكمِّها وزمنها معركة محدودة، يعني ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من المسلمين يقابلهم ما بين التسعمائة والألف من المشركين، واستمرت ضحوة من نهار ثم انتهت، ومع هذا تعتبر هذه المعركة من المعارك الحاسمة في التاريخ ومن أعظم معارك التاريخ، لم تستمر أربعين سنة مثل حرب البَسوس ولم يُقتل فيها آلاف، قُتل فيها من المسلمين أربعة عشر رجلاً استُشهدوا في سبيل الله وقُتل من المشركين سبعون من صناديد قريش وأُسر منهم سبعون، فهي من الناحية العددية ومن الناحية الكمية تعتبر معركة بسيطة ولكن أهمية هذه المعركة من ناحية هدفها كانت أول معركة يخوضها المؤمنون في سبيل الله، أول مواجهة بين جند الحق وجند الباطل ولذلك القرآن سمى يومها «يوم الفرقان»: «وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان»، يوم الفرقان هو اليوم الذي فرَّق الله فيه بين الحق والباطل بنصر الحق على الباطل ونصر الإيمان على الكفر ونصر التوحيد على الشرك والوثنية، فمن أجل هذا كان لهذه المعركة أهميتها عند الله وعند رسوله وعند المسلمين، حتى إن المسلمين ظلوا يفخرون بهذا ويقولون إن فلانًا هذا كان بدرياً، كان من أهل بدر، فقد كانت أهميتها كما حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه في المعركة بإلحاح وحرارة حتى سقط الرداء عن منكبيه «اللهم انصر هذه العصابة، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض بعد اليوم» معنى هذا أن على هذه المعركة يتوقف مصير الدين والتوحيد وعبادة الله في الأرض، لأن هذه الجماعة تمثل آخر أديان الله ليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي وليس بعد القرآن كتاب وليس بعد الإسلام شريعة وليس بعد هذه الأمة أمة، وهذه هي طليعة هذه الأمة إذا هلكت وهلك نبيُّها معها معناها انتهى الدين وانتهى التوحيد في الأرض، فهذه أهمية هذه المعركة، رأينا من المعارك الحرب العالمية الثانية ـ مثلي حضرها ـ والحرب العالمية الأولى وكان ضحاياها بالملايين ولكن لم تتوقف عليها مثل ما توقف على غزوة بدر، غزوة بدر ترتب عليها «اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض بعد اليوم»، ولهذا خاض المسلمون هذه المعركة وكانوا أقل عَدداً وأضعف عُدداً وحتى من الناحية النفسية لم يخرجوا للقتال خرجوا من أجل القافلة ـ اعتراض العير ـ خرجوا للعير وليس للنفير وذلك القرآن حدد هذا وقال «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون» لأنهم لم يخرجوا متهيئين نفسياً لمعركة وكانوا يودون كما قال القرآن «وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم» كانوا يتمنون أن يلقوا العير ولا يلقوا النفير.
وفي غزوة بدر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم دروساً وعبرًا نأخذ منها نموذجاً «الاستشارة قبل الحرب». كان صلوات الله وسلامه عليه يريد أن يتعرف على رأيهم قبل أن يخوضوها، لأنه بايع الأنصار وهم جمهور الناس، الأغلبية من هذا المجتمع كانوا من الأنصار، «الأوس والخزرج»، والأقلية هم المهاجرون الذين هاجروا إلى هذه البلاد، فهم لابد أن يأخذ رأيهم بصراحة، فقال: أشيروا عليّ أيها الناس، فقام عمر فتكلم فأحسن، أبو بكر تكلم ثم عمر ثم المقداد بن الأسود قال: يا رسول الله والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، كل هؤلاء من المهاجرين ولم يكن هم المطلوب رأيهم بل كان مطلوباً رأي الأغلبية، حتى قام سعد بن معاذ وهو يمثل الأنصار وقال: يا رسول الله كأنك تريدنا، والله يا رسول الله لقد آمنا بك وصدَّقناك وأيقنّا أن ما جئت به هو الحق، والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه وراءك ما تخلف منا رجل واحد وإنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، سالم بنا من شئت وحارب بنا من شئت لعل الله يريك منا ما تقر به عينُك، فالنبي عليه الصلاة والسلام سُرَّ وانشرح صدرُه واستنار وجهُهُ، فقد كان إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه فلقة قمر وقال: سيروا على بركة الله فقد وعدني الله إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير فلم يدخل المعركة إلا بعد أن أخذ إذن القوم وعرف رأيهم بصراحة.
في أثناء المعركة جاء أحد الأنصار «الحباب بن المنذر» وقال: يا رسول الله هذا المنـزل الذي نزلته أهو أمر أراكه الله ـ يعني بوحي من الله ـ ليس لنا أن نتقدم عنه ولا أن نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» قال: فليس هذا بمنـزل إن كان هذا مجرد رأي، المنـزل أن نذهب إلى المكان الفلاني قريب من الماء ونحفر ونعمل كذا ويأتي إلينا الماء فنشرب ونسقي ويُحرم أعداؤنا من الماء، فقال: «الرأي ما أشار به الحباب» فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم متعصباً لرأيه أو يقول أن هذا شيء ينال من مكانته.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم استشار قبل المعركة واستشار في أثناء المعركة واستشار بعد المعركة في قضية الأسرى، فقد استشار ماذا يفعل بهؤلاء الأسرى؟ بعضهم قال: نقتلهم، وبعضهم قال: نأخذ منهم الفداء ونستفيد منه ولعلّ الله يهديهم، وكان هذا رأي أبو بكر، والآخر رأي عمر وعلي ومال النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر وعاتبه الله بعد ذلك ولكن الخير ما اختاره الله سبحانه وتعالى.
أضف تعليقك