(1)
خلية نحل لا تكاد تهدأ حركتها، تشمّ رائحة الكحك الدائر في الصواني ومعها رائحة البهجة وصخب الطفولة، فما إن تبدأ الليالي الأخيرة من رمضان على الرحيل حتى يكون موعدنا العائلي المحبب مع كحك العيد، طقس فريد لا يخلو منه بيت مصري في العادة، من السهل هنا استدعاء تفاصيله الحاضرة في الخيال: بيت جدتى الفسيح وقد تجمعنا حول المواقد، من يخبز العجين ومن عليه مهمة تشكيله، أما نحن الأطفال فندور بين ذلك كله بالمرح وبعض المشاغبات.
للـكحك - كما لكل شيء في مصر - جذره التاريخي، فيُذكر أنّه كان هدية زوجات الملوك للكهنة القائمين على حراسة المعابد الفرعونية، ثم أخذ وضعه كـطقس شعبي ونخبوي برعاية الدولة الفاطمية التي خصصت له ميزانية ضخمة من ريع الأوقاف الخيرية لتوزيعه على الفقراء والمساكين حتى عُرف عيد الفطر بـ"عيد الكحك". يحلّ صباح العيد بالخير والبركة، تُزيّن الموائد أطباق الكحك وسط همزات ولمزات أصحابها بمن يحوز المذاق الأجود في ماراثون نسائي لطيف، بينما ننشغل نحن بتفاخرات العيدية الأكثر وملابس العيد الأبهى.
(2)
أفكر الآن، متى صارت تلك الأيام القريبة ذكريات بعيدة نستجديها في مناسباتها، كيف أصبحت جمعتنا العائلية مشتتة بين أقدارها، وكيف تحوّل صخب تلك الليالي إلى سكون بارد يأكل من فرحة الأيام ومن عمرنا.
نحن جزء من واقع مأزوم لا يمكننا تخطيه، هذه حقيقة لا ننكرها، كما لا ننكر أن الحياة تسير خفيفة بركبها لا تنتظر. لذا، يبدو هذا الجدال الموسمى بين أصحاب "بأي حال عدت يا عيد"
يدور الزمن ويتبدل الحال، تتغيّر الأمكنة ويصير مذاق الكحك مختلفا، ففيما يبدو كان مذاقه الحلو من صحبته أكثر من مكونات عجينه، فمن بيننا من يسكن زنزانة ما في سجون مصر الممتدة بطولها وعرضها يقضى عيده بين ركام الذكريات، يجتّر منها البهجة ويستسمحها في بعض البسمات عساها تخفف ثِقل الحبس ووحشة السجن، يعيد هندمة "بدلة السجن" ولا بأس ببعض الطِيب حتى يصلب فرحته في زيارة قصيرة لدقائق يتكلف فيها عناء طمأنة أهله وأحبابه أنّ كل شيء على ما يرام، حتى إذا عاد إلى وحدته ثانية تَكشف حزنه وألمه، أعرف من هؤلاء أخي، ويعرف آخرون آباء وأزواج وإخوة.
إذا، لا سبيل للهروب مهما حاولنا، أذكر جيدا صباح العيد الذي قضيناه في مزرعة طرة - أشهر السجون المصرية وأخفها وطأة - فعلى الرغم من تلك الزينة التي امتلأت بها قاعة الزيارة ومحاولات الضحك وإلقاء النكات والسخرية من الحال بالتندّر عليه إلا أن هذا كله ذهب أدراج الرياح مع السلام الأخير، حيث يعود كل شيء إلى أصله: زنزانة كئيبة وعائلة ذهب عنها روحها.
نحن جزء من واقع مأزوم لا يمكننا تخطيه، هذه حقيقة لا ننكرها، كما لا ننكر أن الحياة تسير خفيفة بركبها لا تنتظر. لذا، يبدو هذا الجدال الموسمى بين أصحاب "بأي حال عدت يا عيد" ومنادِي " الفرحة عبادة" جدلٌ غير مبرر، فجميعنا عالقون في الواقع نفسه، لم نتمّ مراثينا ولم نأخذ بثاراتنا وما زال دمنا مسفوحا بيننا، لم يقض علينا حزن ولم يكتمل لنا فرح، لكننا على ذلك نجتهد في سرقة البهجة وقطف ثمار مواسمها بكلمة طيبة أو أملٍ بعيد، فمدار الأمر كله ما تحتمله سِعة نفسك من الفرح والحزن، وما تسعفك فيه قدرتك على التجاوز والهرب المؤقت، لكنّا جميعاً يا صديقي سنعود إلى النقطة ذاتها: لم يعد عيدنا كسابقه كما لا فائدة من البكاء على طلاله، ويكفينا منه - حتى حين - طبق من الحكك على مائدته.
أضف تعليقك