قبل أن يستدعيه قائد الانقلاب العسكري، ليكون "في الصورة"، وهو يلقي بيانه، لم يكن معروفاً عن البابا "تواضروس الثاني"، بطريرك الكرازة المرقسية، أي اهتمام بالسياسة، ولم يقل أحد من زملائه في كلية الصيدلة أنه شارك يوماً في أمر له علاقة بالسياسة أو العمل العام، ولهذا فعندما يجري التعامل معه على أنه محلل سياسي، يكون من الطبيعي أن نشاهد كائناً هو "الخالق الناطق" توفيق عكاشة!
لا تحتاج الظاهرة العكاشية إلى شرح وتوضيح، فيكفي أن تُذكر ليُفهم المقصود بها، وهى ظاهرة صار يعبر عنها إعلاميون، وأساتذة جامعات، ورجال دين، فغني عن البيان، أن هناك من لم تكن السياسة ضمن اهتماماتهم، لكن بقيام ثورة يناير، وما حققته من حرية، لا تجعل من يمارسونها أو يهتمون بها في حكم من يلقون بأنفسهم إلى التهلكة، فإن من كانوا يبتعدون عنها، وجدوا أنفسهم، في "حيص بيص"، وقد هرعوا إلى "عكاشة" ليكون لهم الأستاذ المعلم، فكانت الظاهرة العكاشية، التي ينتمي إليها البابا "تواضروس"، والذي وجد نفسه بالاستدعاء العسكري، مطالبا بأن يفهم في السياسة، فلم يكن في حكم البابا شنودة، الذي هو زعيم سياسي أخطأ طريقه إلى الدير!
ولأن الكنيسة، جزء من الدولة العميقة، فقد كان البابا شنودة ضدة، ومع مبارك، وبوفاته، كان على البابا الجديد "تواضروس الثاني"، أن يستمر جزءاً من هذه الدولة، وكان عليه أن يسلك طريقاً من اثنين: الأول، أن يبتعد عن العمل السياسي المباشر، مثل الآباء السابقين للكنيسة، وقبل اختراقها من "جماعة الأمة القبطية" بواسطة الراهب "نظير جيد"، البابا شنودة في وقت لاحق. أما الطريق الثاني، ففي أن يكمل مسيرة شنودة، وإن افتقد لملكاته السياسية.
وكان واضحاً أن طبيعة "تواضروس"، كونه أحد رجال الدين التقليديين، تلزمه بالابتعاد عن السياسة "ووجع القلب"، لكنه وجد نفسه بالانقلاب العسكري في قلبها، ويقال إن الأجهزة الأمنية هي من ورطته في ذلك عندما استدعته لتخبره أنها أحبطت محاولة لاغتياله، لتتمكن من أسره وتدفع به للارتماء في أحضانها، ليكون جزءاً فاعلا في الانقلاب على الرئيس المنتخب، وهناك دوافع أخرى لهذا الموقف، مرتبطة بالجينات الطائفية في الوقوف ضد حاكم ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين حتى وإن لم يدس الرئيس وجماعته للبابا وكنيسته "على طرف"!
ولأن البابا الجديد، وجد نفسه في بحر السياسة متلاطم الأمواج، فكان لابد من أن يثقف نفسه سياسياً، وعندما تستمع له، فستعلم أن "توفيق عكاشة" هو مرشده السياسي، وربما لهذا استضافته إحدى القنوات التلفزيونية المصرية لتعوض به الغياب القسري لعكاشة، والذي أبعد وأغلقت قناته، لأنه تجاوز الدور المرسوم له، وظن أنه شريك لعبد الفتاح السيسي في الانقلاب، ومن حقه أن يتقاسم معه الغنائم، ولما وجد نفسه سيخرج من المولد بلا حمص، اشتكاه لولي أمرهما، وهو السفير الإسرائيلي بالقاهرة!
لم يجر تقديم البابا في قناة "أون لايف" على أنه رجل دين هو رأس الكنيسة المصرية، ولكن تم التعامل معه على أنه الناشط السياسي "تواضروس الثاني"، فتكلم فيما لا يعنيه، ليصبح من الطبيعي أن يواجه بما لا يرضيه!
ومما قاله الناشط "تواضروس" في هذه المقابلة المتلفزة أن الربيع العربي أكذوبة وجاء بالخراب والدم، وأن قطع العلاقات مع قطر تم بناء على معطيات ودلائل على تمويلها الإرهاب!.. البابا يكذب!
فالربيع العربي هو الحق، لأنه كان صرخة من شعوب رفضت الظلم، ورفضت تخريب الأوطان، وخرجت على أنظمة فاسدة، تمثل المؤسسة الدينية المسيحية إحدى دوائرها، ونجاح الربيع العربي، كان يعني أن بلاد العرب حرة مستقلة، وأن يعمل الحكام في خدمة الشعوب، وليس في خدمة البيت الأبيض وحراسا على المصالح الإسرائيلية في المنطقة وأدوات لتنفيذ مخططات بني صهيون. كما أن الربيع كان سيوقف استنزاف الثروات العربية من قبل اللصوص الذين يتولون الحكم، ليحقق العدالة الاجتماعية المنشودة، وفي دولة الفساد كان هناك وجود لدولة البابا، التي كان الربيع العربي سيعيده إلى حجمه الطبيعي مجرد زعيم روحي لأتباعه من المسيحيين، ليس له أن يخطو خطوة داخل حلبة السياسة!
أما إراقة الدماء فليست فعلاً للربيع العربي، الذي هو ضحية ومجني عليه، والجاني هم العسكر حلفاء البابا، ومن قتل المسيحيين في ماسبيرو ومن باعهم تواضروس بالرخيص، هو من قتل الشباب في أحداث محمد محمود، وفي "رابعة" وأخواتها!
وعندما يقول الناشط السياسي "تواضروس" إن قطع العلاقات مع قطر جاء بناء على معطيات ودلائل على تمويلها الإرهاب، فمن الطبيعي أن يختلط علينا الأمر، فلا نعرف إن كان المتحدث هو البابا، أم "محمد خلفان"؟!
فما هي المعطيات والدلائل التي تثبت أن قطر تمول الإرهاب، وما هو المقصود بالإرهاب في عقيدته!
إن "العدوان الثلاثي" الذي ينحاز له "تواضروس الثاني"، تمطع وتمدد وانكمش ثم تمخض فولد فأراً ميتاً، عندما تحدث عن تمويل قطر للإرهاب، فلم يفهم منه إلا انحياز قطر للحق الفلسطيني، وعندما تم إعلان قائمة الإرهاب، لم تتمكن دول الحصار من إثبات أن أحداً من المقيمين في قطر، قد أيد الإرهاب بالقول أو بالعمل. ثم أضحك "العدوان الثلاثي" الثكالى بذكره العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، كأحد زعماء الإرهاب في العالم، فهل هذه هي المعطيات والدلائل التي يراها "تواضروس الثاني" على تمويل قطر للإرهاب؟!
لا بأس، إن وجد البابا في وصف المقاومة الإسلامية بالإرهاب، ورأى أن الشيخ القرضاوي هو منظر الفكر الإرهابي، فعندما تتحرك بداخل "تواضروس" جينات الطائفية فلا يمكن التمييز بين كلامه وكلام "الأستاذ المعلم" توفيق عكاشة!
من يستطيع أن يقول للبابا: الزم حدودك!
أضف تعليقك