• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

(مدخل-1)

في منتصف الثمانينات كتبت قصيدة بعنوان "ورقتان متفرقتان من مذكرات جندي فار"، وكانت على هيئة لوحات منفصلة ورقة مع بداية التجنيد، وورقة أخرى بعد عام كامل، وبينهما قصة صدمة شاب جامعي التحق بالتجنيد لأداء الخدمة العامة بعد سنوات من توقيع معاهدة كامب ديفيد، وبطبيعة الأمور لم تجرؤ أي مطبوعة عامة على نشر القصيدة، لولا حماس صديقي المثقف النبيل مجدي حسنين (رحمة الله عليه) وكان مديرا لتحرير مجلة "أدب ونقد"، فاتخذ قراره دون أن يخبرني ونشر القصيدة في أوائل التسعينيات، ومطلعها كما أتذكر يقول: ذات مساء/ وشتاء يناير جاء/ عربيدا من غير حياء/  كانت تنقلنا العربات الصفراء لجوف الصحراء/ لنخيط الكاف جوار الراء/ كي نأمن شر الأعداء/...

وبعد حديث عن أجواء البرد والجوع وطاعون الوحدة بين الغرباء، أتذكر مقطعا عن أول طابور كانت قافيته أيضا بالهمزة، لتأكيد إحساس التأتأة والوأوأة مع أبيات قصيدة مرتبكة كطلقات رصاص عشوائية بلا هدف ويقول هذا المقطع بحسب الذاكرة: برز ذو الوجه الجامد من دفء الحجرة مستاء، طلب الإصغاء لبعض التعليمات وبعض التهديدات/ وطلب الحرص على بعض الأشياء/ المال.. الشرف.. الـ....../ لم يكن الوطن من الأشياء!

 

 

(مدخل-2)

قبل أكثر من عام التقى السيسي مع مثقفين وإعلاميين ونقابيين وحقوقيين ونواب برلمان، وبعد حديثه المفضل عن "قوى الشر"، أفصح عن عزمه التفريط في تيران وصنافير، لأن والدته (رحمة الله عليها وعلى كل الأمهات) قالت له: "أوعى تاخد حاجة من حد، وماتطمعش في حاجة حد، وما تبص لحاجة في إيد حد، ..."، وبالطريقة التي انتهى بها المقطع الثاني من القصيدة: لم يكن الوطن من الأشياء!! لذلك لما تذكرت حديث السيسي الذي يخلط فيه بين "نصيحة أمه بألا يطمع في حاجة حد" وبين "سيادة الوطن على حاجته" تذكرت أنا الآخر نصائح أمي: ما تكدبش.. وما تخافش وانت بتقول كلمة الحق، وما تخونش أصحابك ولا بلدك، وما تنصرش ظالم على مظلوم، وأظنها نصائح عامة لم تخترعها أمي وحدها، لأنني سمعتها من أمهات كثيرات، ولا أستبعد أن تكون والدة السيسي قد قالتها له، لكن ذاكرته تنتقي دائما ما يحب أن يبرر لنا به معجزاته وإنجازاته.

 

 

(مدخل-3)

ولأنني لست في حالة تسمح بكتابة جديد في واقع قديم قديم، ولأنني لا أحب إعادة صياغة كلام استهلكناه تكرارا، فإنني أعيد على السيسي ما كتبته قبل عام بعنوان "الطبخة والزيارة المشؤومة"، خاصة وأن قصة القصيدة (التي سقط منها الوطن) تصلح مدخلا للحديث عن مهام الجندي الذي صار يدافع فقط عن "مخلة الملابس" و"أسوار الأسلاك الشائكة" في زمن انقلاب المفاهيم، حتى صار رجل الأمن يناقش ملكية الأرض التي يقف عليها في نقطة تفتيش، ويتخلى عن مكان خدمته، لأنه لا يملك وثيقة ملكية، بالرغم من أنه يقف في هذا الكمين منذ سنوات طويلة.

عن تيران أتحدث.. عن "الطبخة الخفية" التي يشارك فيها السيسي بعلمه أو بجهله أكتب:

 

 

(1)

ذات مرة قال حاكم برجماتي (شبه اللي عندنا): لا يهمني أن تكون القطة بيضاء أو سوداء.. ما يهمني أن تصطاد الفأر، ولهذا سأناقش البرجماتي بلغته، فالرجل الذي تحرك ضد شرعية رئيس منتخب معلنا انحيازه لإرادة الجماهير على حساب "العقود" و"الوثائق" و"الدساتير"، والذي نكث بكل العهود التي أعلنها حتى لا يقال إن جيش مصر تحرك طمعا في السلطة، والذي تجرأ على كل القواعد والحريات باسم "الضرورة"، استيقظ فجأة على فكرة "حقي وحقك" ناسيا الضرورات التي أباحت له كل المحظورات التي سعى ولا يزال يسعى إليها، فيظهر هادئا ومبتسما وهو يتنازل عن موقع استراتيجي في مدخل خليج العقبة، دفعت من أجله مصر ثمنا غاليا! وعلامة التعجب هنا لا تتعلق بالحديث الذي شغلت السلطة نفسها به لمحاولة إثبات ملكية تيران للسعودية، لكنها تعبر عن دهشتي من سلوك جندي أو جنرال يسلم سلاحه، لأنه ليس ملكه، وليس لديه فاتورة بشرائه!

 

 

(2)

يصرخ محامي الشيطان في رأسي قائلا: "الرئيس" لم يعد جنرالا، فلا تلوموه لأنه بدأ يفكر بعقلية "المدني" وليس "العسكري".. يا أهلا وسهلا بالتنطع، لكن الرد المفحم هو: ولماذا لم يتعامل "الرئيس المدني" مع القضية في النور؟ ويشرك المجتمع المدني في تفاصيلها؟.. لماذا تم طبخ القضية في الظلام بمشاركة أطراف غامضة؟ وفي ظل ظروف وتحديات تهدد مصر بالخطر والتطويق من الشرق والغرب والجنوب؟

 

 

(3)

الحديث عن الطبخة لن يظل سرا، لأنها تُعد لتؤكل في حفل على الهواء، والسعودية ليست صاحبة الوليمة، ولا حتى ضيفة فيها، لكنها تقوم كالعادة بدور الطاهي والسفرجي فقط، الطبخة وراءها أمريكا وإسرائيل لتدويل الملاحة في خليج العقبة، ضمن إستراتيجية طويلة المدى، تسمى "الطريق إلى إفريقيا"، وهي نفس الإستراتيجية التي تم بسببها تفكيك الدولة في ليبيا، وتحويلها إلى محطة خدمة على الطريق نحو مصادر الطاقة من نفط ويورانيوم في نيجيريا وغينيا وغيرهما من دول القارة البكر، وهي الإستراتيجية التي تم من خلالها تجنيد ميليس زيناوي في أثيوبيا، وإنشاء قواعد غربية (مثل معسكر ليمونيه في جيبوتي)، وتفكيك اليمن لإحكام السيطرة الدولية على البحر الأحمر (وهو بحر إقليمي عربي محض) من جنوبه إلى شماله، ومن هنا تم تصنيع وضعية للسعودية في منطقة جزر التيران، بالمخالفة للحقائق الجغرافية والتاريخية، والأهم والأخطر بالمخالفة للبديهيات الإستراتيجية وضرورات الأمن القومي والإقليمي العربي.

 

 

(4)

القصة إذن ليست صراعا مع السعودية، ولا طمعا في مساحة أرض صخرية، لكنها "قصة خيانة" تضر بمستقبل المنطقة كلها، وخطوة ضمن مخطط إعادة تشكيل المنطقة، وهو كلام شبه معلن في الغرب، ولهذا لاحظت أن توزيع المواقف الرافضة والمؤيدة للتنازل عن تيران، يتجاوز الخلافات السياسية المحلية، ويرتبط أكثر بالموقف الدولي، فالفريق الذي يدور في فلك الغرب يجاهر ويسارع بضرورة تسليم تيران، حتى الناشط عمرو حمزاوي، مع تحفظي على استخدام دراسة البرادعي التي تم ترويج جانب مجتزأ منها يقول "لا تقربوا الصلاة" لكن الدراسة نفسها، تتحدث بوضوح قاطع عن سيادة مصر على مضيق انتربرايز، وهو المضيق الملاحي الرئيسي لخروج السفن الكبيرة من خليج العقبة، وهذا التوظيف المغرض تم مع كتاب جمال حمدان عن سيناء الذي تم ترويج صفحات زائفة منها ونسبتها إليه، كما تم مع ترويج فقرة من كتاب "سنوات الغليان" لهيكل، تحدث فيها عن الوضع المؤقت لتيران بعد حرب 48، وهو حديث صحفي وسياسي منقول عن وثيقة ولا يعبر عن رأي هيكل الذي سأكتب عنه قريبا من خلال حوار خاص دار بيننا قبل عامين، بل أن هيكل طالما أكد في مقدمات كتبه السياسية التي استخدم فيها الوثائق أنه ليس مؤرخا، وكتاباته لا تعد تأريخا، فلماذا اجتهدت السلطة في التبرير والتلفيق؟ ولماذا تمضي في طريق الإجراءات دون انتظار لرأي شعب أو برلمان أو حكماء؟ فقد بدأت الأنباء تتكشف أن الترتيبات مع إسرائيل وأمريكا تمت بالفعل في وقت سابق، وكما قال أمل دنقل: "القطارات ترحل فوق قضيبين. ما كان ما سيكون".. فسلطة التشدد حتى القتل (مع الداخل) لا تتريث ولا تخجل من التفريط والتهاون حتى الخيانة (مع الخارج).

 

 

(5)

هذا مجرد مدخل لوضع القضية في سياقها الأمني والاستراتيجي، وبيان الأطراف الفاعلة والمحركة للدمى وراء الستار، لكن مثل هذه القضية، ليست أزمة في فنجان، ولن تكون أزمة عابرة وتمر، إنها الوجه المكمل لزيارة السادات المشئومة للكنيست الإسرائيلي.. في الزيارة التي ذهب فيها السادات إلى إسرائيل بدأت خطة الانقلاب على نصر أكتوبر، وفي الزيارة التي جاءت فيها "إسرائيل" إلى القاهرة تحت قناع آل سعود، تواصل "قوى التفريط" الإجهاز على ما تبقى من مواطن المقاومة والصراع في بلدٍ عانى كثيرا بسبب كل "خنفس"، وكل "بركات"، وكل "خائن بك"، وكل "بتاع"..

 

 

(6)

#تيران_لا

 

أضف تعليقك