الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسلَهُ ربُّه هدى ورحمة للخلق أجمعين، أما بعد:
فلقد جعل الله تعالى كتابه المجيد سببًا ووسيلة للترقي الإيماني والأخلاقيّ والحضاري، ومن بين وسائل القرآن الكريم في تربية الأمّة بأفرادها وحكوماتها (ذكر القصص القرآني للأمم السابقة ولجموع الأنبياء والمرسلين). يقول الله تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، ويقول أيضًا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]. وقد تميزت القصة القرآنية بأنها قصة حقيقية لا مكذوبة، وأنها واقعية لا متخيلة، وأن المذكور منها هو جانب العظة والعبرة؛ ولذلك نجد القصة القرآنية لا تتسم بالحشو والتفصيلات التي لا حاجة إليها.
ومن بين تلك القصص التي نتعلّم منها ونستفيد الدروس والعبر (قصة نبي الله داوود عليه السلام) وقد ورد ذكر قصته في مواضع عديدة في مراحل مختلفة، منها: (البقرة/ 251)، (النساء/ 163)، (الأنبياء/ 79، 80)، (النمل/ 15، 16)، (ص/ 17: 26)، والسورة التي معنا الليلة هي سورة سبأ، والموضع المذكور في سورة سبأ، والتي تهدف إلى بيان أن الاستسلام لله سبيل بقاء الأمم والحضارات، في هذه السورة وفي آيتين متعاقبتين ورد ذكر نبأ نبيّ الله داود عليه السلام، يقول تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»… وفي موضع آخر -في سورة الأنبياء- يقول المولى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 79، 80]. وفي تلك الآيات دروس وعبر.
والآن تعالَوْا بنا لنقف مع آيات سورة سبأ وقفات تربويّة وإيمانيّة، بيانها على النّحو التالي:
أولا: عظيم فضل اللَّه على عباده، ولا يُنالُ ما عند الله إلا بطاعته:
فلقد خصّ الله تعالى نبيَّه داود -عليه السّلام- بمزيد فضل عطاء ونعمة، وقد ظهر ذلك في (تسخير الجبال والطير؛ لتردد ذكر الله وتسبيحه معه، وقد ألان له الحديد فضار كعجينة في يد الخبّاز، أعطاه الزبور؛ معلِّمًا ونافعًا له، وأعطاه المُلْكَ فجمعَ بين خيري الدنيا والآخرة، فضلاً عن القوة الممنوحة له في بدنه، والحكمة في العقل، والعدل في الحُكْم والقضاء، كما أنعمَ عليه بالذريّة الصالحة؛ فهذا نبي الله سليمان -عليه السلام- ورث من أبيه داود النبيّ -عليهما السّلام- الحكمة والعلم والمُلْك.. وربُّ العباد إذا أعطى لا يُسْأل عن السبب.
ثانيًا: الشكر يقيّد النعم، والكُفْرانُ يزيلها:
إنّ شكر نعم الله يمنعها من الزوال ويجلب المزيد، قال تعالى: «لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد».والكُفر بها يزيل النعم ويحلّ بالكفر النِّقَم، قال تعالى -واصفًا حال قريةٍ كفرت بنعمة الله- {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} فانظر: كيف تحوّلت النعمة إلى نقمة، فبعدَ الأمان ولقمة العيش، كفرت تلك القرية بنعمة الله ونسيت فضلها عليها، فزالت النعم؛ لأن الذي أعطى النعمةَ قادرٌ على أن يَسلُبَها في أي وقت شاء.. فلتتأمّل!!
ولذا فقد أمرَ الله تعالى عبده داوود وأهله بالشكر، واعتبره عملاً صالحًا فقال سبحانه: «اعملوا آل داود شكرًا» ولأنّ القليل من الناس مَن يشكُر لاحظنا تذييل الآية «وقليل من عبادي الشكور»..
ثالثًا: أفضل ما يأكله الإنسان ما كان من عمل يده لا من عمل غيرِه:
وهذا درسٌ في غاية الأهمية في حياتنا اليوم؛ فالذي يعيش عالةً على غيره لا قيمة له، ولا يؤبه له في واقع الحياة، مهما كانت قيمته ومهما علَت مكانتُهُ؛ فهذا نبي الله داود -عليه السّلام- رغم كونه خليفة وملكًا مُهابًا ونبيًّا مرسلاً إلا أنه ما جلس يحكم ويأمر بلا عملٍ نافعٍ -حاشاه- بل إنه كما «وألنا له الحديد» «أن اعمل سابغاتٍ وقدِّر في السرد» فكان عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها.
وفي الحديث الصحيح عند البخاري، قال صلى الله عليه وسلّم: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيَّ اللَّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده». وهكذا جميع الأنبياء وكلّ الصالحين، فمنهم من كان يرْعى الغنم، ومنهم من كان نجارًا؛ كزكريا -عليه السلام-، ومنهم من عمل بالنجارة زمنًا مثل نوح -عليه السلام-، ومنهم من عمل بالتجارة فكان يبيع ويشتري في الأسواق، وكبار الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كان الواحد منهم يعمل بيده ويحمل على ظهره ليكتسب قوته ويتصدّق من عمل يده، فقد أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمل وكسب القوت، حتى ولو كان العمل في الاحتطاب، فلا غضاضة في ذلك، فهذا خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- متواترة في ذلك، وأعمال الصحابة كذلك شاهدة على ذلك، فكانوا يتناوبون فيما بينهم في سماع النبي -صلى الله عليه وسلم- والجلوس عنده وفي طلب الرزق.
رابعًا: تأييده بالمعجزات الحسية:
فمن المعجزات أنْ ألانَ اللهُ الحديد لداود عليه السلام فجعله مطواعًا له يشكله كما يشاء، وهذه آية من آيات اللَّه الكونية ودليل على قدرة اللَّه سبحانه، فهو الذي جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وجعل الماء سلاحًا أغرق فرعون، ونجّا موسى، وألانَ الحديدَ لداود، وهكذا فلله جنود السماوات والأرض يفعل ما يشاء ويختار؛ ولكنّ أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة، فلا بدّ من اليقين بأنّ الملكَ ملك الله، والكونَ كونه، والقوةَ قوتُه، والأيام دول!!
خامسًا: عبودية الكائنات وغفلة بني آدم:
إنّ الكون من حولنا يسبّح ويعبد؛ فهو في عبادة مستمرة، فأين العقلاء من البشر؟! وأين أهل الغفلة من المسلمين؟!. يقول الله تعالى في شأن تسبيح الجبال والطير مع نبي الله داود: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]. وفي سورة سبأ بيان لأمر إلهي للجمادات والطيور بالتسبيح والعبودية لله تعالى: «يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» ويقول سبحانه في عبودية الكائنات كلها: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. ألا فلينتبه أهل الإنسانية المكرّمة: أين هم من عبودية الله؟ أين الغيرة من تسبيح الجمادات والطيور؟.
سادسًا: نبي الله داود القدوة والأُسْوة:
لقد كان نبي الله داود قدوة في العبادة والطاعة، وقدوة في العلم والحكمة، وقدوة في العمل والعطاء والتفكير الإبداعي، وكان قدوة في توازنه..
1. فأما كونه قدوة في العبادة؛ فلقد كان عبدًا خالصا لله شكورًا يصوم يومًا ويُفطر يومًا، يقوم نصف الليل وينام ثلثه ويقوم سدسه، يقول تعالى في وصفه: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]. قال ابن عباس ومجاهد: الأيد: القوة في الطاعة. يعني ذا قوة في العبادة والعمل الصالح، قال قتادة: أعطى قوة في العبادة فقهًا في الإسلام، قال: وقد ذُكِرَ لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر. قال رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- عن داود: «أفضل الصيام صيام داود. كان يصوم يوما ويفطر يوما. وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء ويشفي بصوته المهموم والمحموم».. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أحب الصلاة إلي الله صلاة داود، وأحب الصيام إلي الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى»..
2. كان قدوة في قراءته للزبور والترنّم بكتاب الله المنزّل عليه: قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق) أي: عند آخر النهار وأوله، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحداً، بحيث أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الأوزاعي: حدثني عبد الله بن عامر قال: أعطي داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى إن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى يموت عطشاً وجوعاً، وحتى إن الأنهار لتقف!. وقال وهب: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئته الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله، فيعكف الجن والإنس والطير والدواب على صورته، حتى يهلك بعضها جوعاً.
3. وأمّا كونه قدوة في العلم والحكمة: فإنّ نبي الله داود قد آتاه الله العلم والحكمة، ولا أدلّ على ذلك من قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251]. فأعطاه الله العلم والحكمة وفصل الخطاب، أعطاه الله مع النبوة والملك حكمة وقدرة على تمييز الحق من الباطل ومعرفة الحق ومساندته.. فأصبح نبيًّا ملكًا قاضيًا. وصدق الله إذ يقول: «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ».
4. وأمّا كونه قدوة في العمل والعطاء: ففي صناعة الدروع تفكير إبداعي في رؤية عسكرية لصناعتها أعظم دليل، يقول تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} فألان الله في يديه الحديد، حتى قيل أنه كان يتعامل مع الحديد كما كان الناس يتعاملون مع الطين والشمع، وقد تكون هذه الإلانة بمعنى أنه أول من عرف أن الحديد ينصهر بالحرارة. فكان يصنع منه الدروع. كانت الدروع الحديدية التي يصنعها صناع الدروع ثقيلة ولا تجعل المحارب حرا يستطيع أن يتحرك كما يشاء أو يقاتل كما يريد. فقام داوود بصناعة نوعية جديدة من الدروع. درع يتكون من حلقات حديدية تسمح للمحارب بحرية الحركة، وتحمي جسده من السيوف والفئوس والخناجر.. أفضل من الدروع الموجودة أيامها. ولم يكن يؤدي العمل للعمل؛ بل العمل النافع لنفع البشريّة..
5. وأمّا كونه كان قدوة في توازنه: فلم يمنعه الملك ولا النبوة ولا عبادته الكثيرة أن يكون محبًّا لنسائه غيورًا عليهنّ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن داود -عليه السلام- كان شديد الغيرة على نساءه، فكانت نساءه في قصر، وحول القصر أسوار، حتى لا يقترب أحد من نساءه. وفي أحد الأيام رأى النسوة رجلا في صحن القصر، فقالوا: من هذا والله لن رآه داود ليبطشنّ به. فبلغ الخبر داود -عليه السلام- فقال للرجل: من أنت؟ وكيف دخلت؟ قال: أنا من لا يقف أمامه حاجز. قال: أنت ملك الموت. فأذن له فأخذ ملك الموت روحه.
6. وأمّا كونه قدوةً في الحُكْم والقضاء: يقول المولى تعالى في حقه مناديا إياه في سورة ص: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. فهذا خطاب من الله تعالى مع داود، والمراد ولاة الأمور وحكام الناس، وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله، لا ما سواه من الآراء والأهواء، وتوعد من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك، وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به في ذلك الزمان في العدل..
فهنيئًا لمن ترسّم طريق الأنبياء
ويا فرحة قلبه مَن سار على طريقتهم في أخلاقهم وهديهم الاجتماعي والتعبدي والإنساني…
أضف تعليقك