الأمل لابد منه لتقدم العلوم، فلو وقف عباقرة العلم والاختراع عند مقررات زمنهم ولم ينظروا إلا إلى مواضع أقدامهم، ولم يمدهم الأمل بروحه في كشف المجهول، واكتساب الجديد من الحقائق والمعارف، ما خطا العلم خطواته الرائعة إلى الأمام ووصل بالإنسان إلى القمر.
والأمل لابد منه لنجاح الرسالات والنهضات، وإذا فقد المصلح أمله فقد دخل المعركة بلا سلاح يقاتل به، بل بلا يد تمسك بالسلاح، فأنى يرتقب له انتصار وفلاح؟
وإذا استصعب الأمل فإن الصعب سيهون، والبعيد سيدنو، والأيام تقرب البعيد، والزمن جزء من العلاج.
والمثل الأعلى للمصلحين سيدنا رسول الله صلوات الله عليه:
ظل في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو قومه إلى الإسلام، فيلقون دعوته بالاستهزاء، وقرآنه باللغو فيه، وحججه بالأكاذيب، وآياته بالتعنت والعناد، وأصحابه بالأذى والعذاب، فما لانت له قناة، ولا انطفأ في صدره أمل.
اشتد أذى المشركين لأصحابه، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم في ثقة ويقين: “تفرقوا في الأرض وإن الله سيجمعكم”.
وجاءه أحد أصحابه “خباب بن الأرت” وكانت مولاته تكوي ظهره بالحديد المحمي فضاق بهذا العذاب المتكرر ذرعا، وقال للرسول في ألم: ألا تدعو لنا؟ كأنه يستبطئ سير الزمن ويستحث خطاه ويريد حسم الموقف بين الإيمان والشرك بدعوة محمدية تهتز لها قوائم العرش، فينزل الله بأسه بالقوم المجرمين كما أنزله بعاد وثمود والذين من بعدهم.
وغضب النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العجلة من صاحبه. وألقى عليه درسا في الصبر على بأساء اليوم، والأمل في نصر الغد، فقال: “إن الرجل قبلكم كان يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، وينشر بالمنشار فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه. والذي نفسي بيده ليظهرن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه … ولكنكم تستعجلون!!”.
وفي الهجرة من مكة، والنبي خارج من بلده خروج المطارد المضطهد الذي يغير الطريق، ويأوي إلى الغار، ويسير بالليل، ويختفي بالنهار … وفي الطريق يلحقه الفارس المغامر سراقة بن مالك وفي رأسه أحلام سعيدة بمائة ناقة من حمر النعم -جائزة قريش لمن يأتي برأس محمد حياً أو ميتاً- ولكن قوائم جواده تسوخ في الأرض ويدركه الوهن، وينظر إليه الرسول، ويكشف الله له عن الغيب المستور لدينه فيقول له: “يا سراقة كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟” فيعجب الرجل ويبهت ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: “نعم”.
ويذهب الرسول إلى المدينة، ويبدأ في كفاح دام مرير مع طواغيت الشرك، وأعوان الضلال، وتسير الحرب -كما هي سنة الله- سجالاً. حتى تأتي غزوة الأحزاب فيتألب الشرك الوثني بكل عناصره، والغدر اليهودي بكل تاريخه، ويشتد الأمر على النبي وأصحابه: قريش وغطفان ومن يحطب في حبلهما من خارج المدينة، واليهود والمنافقون من الداخل. موقف عصيب صوَّره القرآن بقوله: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) (الأحزاب: 10، 11) في هذه الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل، ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا في الخلاص والنجاة … في هذه اللحظات والنبي يسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول المدينة يصدون بحفره الغزاة، ويعوقون الطامعين العتاة – يحدث النبي أصحابه عن الغد المأمول، والمستقبل المرجو حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى بفارس، وبلاد قيصر بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة، حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق فقالوا في ضيق وحنق: إن محمداً يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده! أو كما قال القرآن: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) (الأحزاب: 12).
ماذا تسمي هذا الشعاع الذي يبزغ في دياجير الأحداث من القلوب الكبيرة، فينير الطريق ويبدد الظلام؟ إنه الأمل، وإن شئت فهو الإيمان بنصر الله: (ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم * وعد الله، لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 5، 6).
أضف تعليقك