منذ ثانيتين
لا يبدد النظام العربي أي فرصة يراها مناسبة، لتمهيد الطريق للتطبيع مع إسرائيل!
فإذا كانت الأنظمة العربية الحاكمة، قد صمتت على ما فعلته دولة الكيان الصهيوني، ضد المسجد الأقصى، رغم ما فجره من انتفاضة عارمة، فقد وجدت -وإسرائيل تتراجع عن قرارها، رضوخاً لإرادة الشعب الفلسطيني- فيما جرى مناسبة لبدء عملية التطبيع، وقال الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، إن المسجد الأقصى إذا دعانا سنلبي النداء!
ظاهر التصريح يدعو للسخرية من وزير خارجية دولة مبارك، إذا تخيلنا أن جدران المسجد يمكن أن تدعو القوم، فيلبوا النداء، أو أن ترسل إحدى بواباته خطاباً بعلم الوصول إلى نيافة الأمين العام لجامعة الدول العربية، تدعوه، فيكون لسان حاله «دعاني لبيته»، دون أن يوضح نوعية الدعوة، وحدود التلبية؟!
بيد أن باطن التصريح مسكون بالعذاب، وقد عودنا النظام الانقلابي في مصر، على أن نتجاوز ظاهر النص، عن طريق «فك الشفرة»، فمن قبل بشر عبد الفتاح السيسي، «بتوسيع اتفاقية السلام مع إسرائيل»، وسخرنا منه، لأنه نظر إلى هذه الاتفاقية على أنها «أستك» قابل للمد وللاتساع ليشمل دولاً أخرى غير طرفي الاتفاقية، لنفاجأ بعد عدة شهور بالنية المبيتة، التي تتمثل في تسليم المملكة العربية السعودية، جزيرتي «تيران وصنافير»، ولأنهما ضمن اتفاقية السلام بين مصر ودولة الكيان، فإن الأمر يستدعي بعد هذا التفريط، أن تدخل السعودية طرفاً في المعاهدة، وضمن بنودها تحقيق التطبيع مع إسرائيل، ومنذ فترة طويلة، والجانب السعودي يحوم حول الحمى، يوشك أن يقع فيه!
وعندما كان الملك عبد الله ولياً للعهد، قال إنه سيكافئ إسرائيل بالتطبيع معها أنها قامت بالجلاء عن الأرض المحتلة، وعلى الفور رحب ياسر عرفات بهذه التصريحات. وعندما أصبح ملكاً أطلق ما سمي بمبادرة السلام العربية، وهى من بنات أفكار كاتب أمريكي معروف، وكان كل هذا في مرحلة خطب الود، وإثبات حسن النية، من طرف عربي لم يكن يوماً يُنتظر منه تطبيع مع الجانب الإسرائيلي، فليس من دول الجوار، كما أنه ليس من دول الصراع!
وكلام ولي العهد هو أشبه ما يكون بالكلام للنفس بصوت مسموع، ومحاولة لتمهيد الأجواء للتطبيع، باعتباره مطلباً إسرائيلياً، وها هى الفرصة مواتية، بتوسيع معاهدة كامب ديفيد، وإذا كان الرفض الشعبي، حال دون التطبيع الكامل في الحالة المصرية، فإن الشعوب جرى قمعها، وتغييبها الآن، فلم تشهد الدول العربية الكبرى مظاهرة تندد بوضع بوابات أمام المسجد الأقصى، ومن هنا فإن التطبيع سيكون بلا حدود!
لقد اعتبر مبارك، أن تطبيع وزارة الزراعة دون وزارة الثقافة، والتطبيع الحكومي المنقوص دون التطبيع الشعبي، هي قسمته فيما يملك، وليس معقولاً أن تكلفه إسرائيل من أمره رهقاً، لكنها كانت دائماً تطلب بالتطبيع الشعبي، وهي الآن تجد الفرصة مواتية، وقد بدأ التمهيد له منذ الانقلاب العسكري، وربما قبل هذا، وعلى طريقة استغلال الفرص، وقد فاجأنا مفتي مبارك «علي جمعة» بظهوره بعد الثورة في القدس، وذهابه للمسجد الأقصى، وهو الأمر الذي يدخل في دائرة التطبيع المنهي عنه وطنياً، ولم يفسر هذه الخطوة حتى الآن، أو يبررها!
ثم كانت المفاجأة بأن وفداً صحفياً مصرياً، يضم اثنين وربما ثلاثة من أعضاء مجلس نقابة الصحفيين، قد سافر إلى الأرض المحتلة، وتم نشر خبر الزيارة على نطاق واسع، رغم القرار التاريخي للجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، الذي يحظر التطبيع، ويعتبر مثل هذه الزيارة تطبيعاً!
ويومئذ قيل أن السفر كان قرارا من اتحاد الصحفيين العرب الذي قرر أن يعقد اجتماعه في رام الله، ولم نسمع عن اجتماع، ولم يصل إلى أسماعنا أن هناك من سافر من الصحفيين غير المصريين، فبدا واضحاً أن المستهدف بالزيارة هم من ينتمون لنقابة كانت سباقة في تجريم التطبيع، في لحظة تحدي للرئيس السادات، وانحيازاً للقضية الفلسطينية، ورفضاً لأن تتحول الدماء إلى ماء!
وإذا كنت لا أستبعد أن يكون من بين الصحفيين، من لا يدرك أبعاد هذه الخطوة، فإن النقيب ضياء رشوان، يدركها تماماً، ليس لأنه نقابي مشغول بنقابته ولكن لأنه ناصري، ففي الحقيقة أنه لم يتعامل مع موقع النقيب إلا في إطار الوجاهة الاجتماعية، دون أن تكون النقابة وتاريخها مطروحة يوماً على جدول اهتماماته، لذا فبمجرد سقوطه فإنه يقاطعها فلا يدخلها زائراً، أو مشتبكاً مع قضاياها.
ولأنه ناصري فإنه يعلم تماماً، معنى التطبيع وحدوده، لكن ولاءه للسلطة الحالية مقدم على انتمائه السياسي، وعندما ارتفعت أصوات الصحفيين الأحرار، تطالب بتقديم هؤلاء للمحاكمة النقابية كما جرى مع مطبعين سابقين، قام ناصري مسكون بالبلادة، بالتشويش على هذه الدعوة بأن طلب أن يسبق هذا محاكمة الصحفيين، أعضاء النقابة، الذين يطبعون مع قناة الجزيرة، مع أنه كان يرابط على المقهى المجاور لمكتبها بالقاهرة، حتى إذا تأخر ضيف، أو أرادوا ضيفاً بشكل سريع يصبح هو جاهزاً لذلك.
وتمثلت ثالثة الأثافي، في انتهاز البابا تواضروس، وفاة مطران القدس الأنبا «إبراهام الأورشليمي» فذهب للقدس لتقديم العزاء، وقام تواضروس بتجميد قرار البابا شنودة، بمنع الحجاج المسيحيين من السفر للقدس ما دامت تحت الاحتلال!
وكانت هذه خطوة تمهيدية لتمييع قرار منع التطبيع، والاستعداد لمرحلة التطبيع الشعبي، وبعد صمت تذكر الأمين العام لجامعة الدول العربية أزمة المسجد الأقصى ليقول سنلبي إذا دعانا، وفي وقت دعت اللجان الالكترونية للانقلاب شيخ الأزهر لزيارة المسجد الأقصى، والبعض اشتملت دعوته على التحدي، كما لو أن الزيارة تحتاج لشجاعة الشجعان، مع أنها ستكون بتأشيرة إسرائيلية، بما يمثل تطبيعا واعترافا بالدولة العبرية، التي سترحب به وتدعمه ولو للصلاة في المسجد الأقصى!
وقد سبق هذا أن نشرت «نيوريوك تايمز» أن ولي العهد السعودي مع التطبيع مع إسرائيل، ثم أعلن رجل المملكة «أنور عشقي» استعداد بلاده للتطبيع العلني مع إسرائيل إذا قبلت بالمبادرة العربية!
إنه التمهيد للمطلوب إسرائيلياً وهو التطبيع الشعبي والمعلن، وهناك من رأوا في أزمة المسجد الأقصى فرصة ليدخلوا من أبوابه إلى ارتكاب التطبيع المنهي عنه وطنياً، كما لو كانوا ينصرون المسجد الأقصى.
إنه اللعب المفضوح.
أضف تعليقك