• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

"قلت لك يا أمي ألف مرة، ليس هناك ما يدعو إلى القلق، الحقيقة أنني أشعر بحزن ثقيل ينوء به قلبي، وبمرارة عارمة تتشبع بها روحي، ويتملكني يأس معاند، لا يفتأ يطالعني من وقت لآخر،

 

ومع كل هذا لا موجب  للقلق يا أماه، لقد أصبحت كل هذه الأمور بمرور الوقت أمرا طبيعيا في حياتنا، نحن جيل الضياع والأحزان يا أماه، أيام الذل مزرعة خصبة للآلام والأحزان،

 

وسنوات الهوان الطويلة لم تتفجر عن فجر يبدد الظلام والوجوم، وتمادى العدو في طغيانه وعبثه وغروره دون أن نستطيع الثأر منه، يشعرني بعجز قاتل ويعصف بالأحلام الخضراء..

 

هذه أعراض لا بد منها، ولو لم تكن استباحتنا على هذه الصورة لكنا أشبه بالموتى.. نحن أحياء نرى.. ونستوعب الأحداث، وننفعل بها، وينغصنا الألم فنأرق ونتعذب ونشرد ونحلم كل يوم.. نحن بشر يا أماه.

 

الذين لا ينفعلون بهذه الأحداث هم الشذوذ نفسه.. وهؤلاء هم الذين يجب أن تقلقي عليهم.. تقولين إن اليأس كفر، ورحمة الله وسعت كل شىء.. إن كلماتك صواب لكن هناك نوع من اليأس قد فرض علينا فرضا،

 

لا حيلة لنا في رده أبدا، إنه قدر، وهو في نفس الوقت عقاب.. نحن الذين جدلنا نسيج الهزيمة بعبثنا ولهونا واستهتارنا.. وقد وقع العقاب، أيمكن أن تكون المأساة مطهرا نغتسل فيه من الخطايا والعهر القديم؟

 

 أمي.. لا تبتئسي فإن الأحزان القديمة الطويلة سوف يتداعى بناؤها العتيق، ويخرج من قلب الغبار والدخان والركام عملاق يحمل بين كفيه فجر الخلاص...".

وسكت..

كانت أمي تنظر إلي بوجهها الشاحب الحزين، والدموع تترقرق في عينيها، ولعلها كانت تظن أني قد أصبت بنوع خبيث من الجنون،

 

وأغرب أنواع الجنون ينبع من هذيان نسيمه حكمة ومنطقا قويا، وتفسيرا جذابا للأحداث الجسام التي يرتج لها كياننا..

 

ولم تزد أمي على أن نصحتني بأن أقلل من السهر وأبتعد بعض الوقت عن إطالة النظر في الكتب، وأن أبحث لي عن عمل أدفن فيه مرارتي وأحزاني..

 

وقبل أن أنصرف عنها قالت: "لست أدري إلى متى تظل بلا زواج؟!" وربما كانت تعتقد أن ارتباطي بزوجة وإنجابي لعدد من الأطفال قد يقدم بديلا جديدا لاهتماماتي الروحية والفكرية،

 

أو ربما كانت قلقة من أجل مستقبل ابنة أختها التي كان هناك شبه اتفاق غير مكتوب على أنني لها وهي لي، أو لعلها كانت تريد بديلا لأختي وأبي أولئك الذين استشهدوا في معركة القدس في يوم من أيام حزيران السوداء..

 

وقلت لها في توتر: "أمي لا طعم للأعراس وأعلام العدو تخفق في سماء المدينة المقدسة..".

 

ووليت هاربا قاصدا خارج المدينة، لم أكن أحمل حقيبة أو أضع على عيني منظارا أسود، أو أتلفت يمنة ويسرة، كنت أمضي دون اكتراث، نظراتي الشاردة مصوبة إلى الأمام إلى بعيد..

 

متخذا من جانب الطريق الأيمن مسارا لي، والمدينة تعج بأصوات السيارات والطائرات ونداءات الباعة، وفي مكاني المعهود، حيث الهدوء والعزلة والصمت والآفاق الرحبة،

 

جلست في ظل شجرة عتيقة، كانت تشدني إلى هذه الشجرة ألفة وحنين من نوع غريب، وجلست مسندا ظهري ورأسي على جذعها الضخم الراسخ، وعشرات الأفكار تصطرع في رأسي المتعب..

 

ملامح الأرض لم تتغير، السماء كالعهد بها والطيور تمرق في الأفق الكبير، والشمس تصب دفئها وأشعتها، لا تكترث لما جرى ويجرى... والعالم موقفه يدعو إلى الحيرة،

 

يصفق للمعتدين وينحي باللائمة على المغلوبين المظلومين ويتغني بالحق والعدل والسلام.. أكاد أختنق، وأجفاني تثقل وتثقل، والإرهاق يجعلني عاجزا عن الحركة..

 

كل شيء يضطرب في ذهني، لكأني مقيد ومعلق بيم السماء والأرض، لا أستطيع الهبوط أو الصعود، هل توقفت قوانين الطبيعة، أم أني أضرب في عالم آخر غامض غاية الغموض".

 

 

وسمعت صوتا ينادي: "أيها المعلق بين الوجود والعدم... تعال إلي ..".

 

 

ولفحت وجهي المحتقن الملتهب أنفاس عطرة ندية، أحسست أن يدا سحرية تصب في قلبي وعقلي قطرات من الراحة والسكينة والرضا.. حاولت أن أفتح عيني فتدفق النور..

 

 يا إلهي ماذا جرى؟! أخذت أتحسس جسدي، وأفتح عيني ثم أغلقهما.. وأقبض يدي ثم أبسطها.. وأتنفس بقوة.. وشعرت بيد حانية تربت على كتفي في حنان ورفق..

 

انتفضت .. أسرعت بالوقوف وقد داهمني ذعر شديد، ونظرت خلفي فإذا برجل مديد القامة، مشرق الوجه مشرب بالحمرة، تضفي عليه لحيته البيضاء وقارا زائدا،

 

وكان أروع ما فيه عينيه الصافيتين الواسعتين اللتين تفيضان صفاء ويقينا وأمنا: "سلام الله عليك..".

 

 

صحت في ارتباك: "من أنت؟!".

 

 

قال والابتسامة تعانق كلماته: "فرضٌ عليك أن ترد السلام على من يقرؤك السلام".

 

قلت وأنا ألهث: "وعليك السلام، فمن أنت؟!".

  • "عبد من عبيد الله"
  • "لم تجب ...".
  • "الحقيقة الأولى هي أننا جميعا عبيد الله"
  • "ولكن لكل عبد اسم ورسم .."

 

قال وقد أحنى رأسه حياء وتواضعا: "اسمي عمر بن الخطاب..)

......................

تأليف الأديب الكبير: نجيب الكيلاني

كتبها: موقع الشرقية أون لاين

أضف تعليقك