صرخت في دهشة: "من؟"
- " ما الذي يزعجك يا ولدي؟"
- "حسبتك خليفة رسول الله .."
- "إنه لكذلك .."
تصدر الكلمات من بين شفتيه قوية رصينة، تفوح منها رائحة الصدق والجلال، بريئة من الشك والريبة، خالصة من كل بهتان، لكن كيف أصدق؟!
- "الموت سجن رهيب لم نسمع أن أحدا اخترق أسواره السميكة، أو تسلق هاماتها الشاهقة .."
ابتسم في هدوء وقال:
- "الموت جسر إلى الخلود، أتعرف شيئا عن الله.. والبعث وقدرة الخالق.. وعالم الغيب والشهادة"
- "أعرف الكثير.."
قال: "تعرف ولا تؤمن، المعرفة شيء والإيمان شيء آخر.. ولا قيمة لمعرفة بدون إيمان، ما دمت قد عرفت فيجب أن تؤمن بالمعرفة اليقينية.. وقدرة الله ليس لها حدود.."
طأطأت رأسي في حياء، وقلبي يفيض بالحيرة، وفكري نهب للشكوك المتضاربة، أعرف أن الله قادر على كل شيء،
وأن في العالم أسرارا لم ترفع عن وجهها الحجب حتى عصرنا هذا، وأن عالم الغيب غاص بالأعاجيب والألغاز والأحاجي
المشكلة أنني لم أر في حياتي ميتا ينفض عن هيكله وكفنه غبار السنين، ثم ينهض، وشدني من حيرته حينما تساءل قائلا: "ما هذه المدينة؟"
- "بيت المقدس يا أمير المؤمنين"
- "أرضنا الموعودة.. جئت من وراء السنين لأرى وأقول.. ليس لي رصيد سوى الكلمة.. يا لجمالها!! لقد زرتها في حياتي، ووضعت جبهتي على ترابها وأنا أسجد لله..
لترابها عبير لم يزل عالقا بأنفي.. ولها ذكريات .. وحاولت زيارتها مرة أخرى لكني لم أستطع .. كان الوباء متفشيا فيها.. وقررت يومها الرجوع ..
وقال قائدنا الهمام أبو عبيدة بن الجراح محتجا: أتفر من قدر الله يا عمر؟! وقلت له: نفر من قدر الله إلى قدر الله..
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قد أوصانا بألا ندخل أرضا بها وباء، أو نخرج من أرض أصابها الوباء "وهكذا رجعت .."
وانهمرت دموعي وأنا أقول: " يا أمير المؤمنين .. إن بالقدس اليوم وباء خطيرا .. هتف في إشفاق: "الطاعون؟"
- "الطاعون يقضي على عدد من الناس .. لكن الوباء الآن قضى على شعب .. وتاريخ .. وقيم كبرى .. في القدس اليوم الإسرائيليون آفة العصر، وحاملو ألوية القدر والحقد والدمار.."
هز الخليفة رأسه، ويبدو أنه أدرك أنني لا أقصد مرضا من الأمراض المعروفة بشدة عدواها وخطرها، وقال: " أريد أن أزورها"
- "مستحيل"
- "كيف؟ هل أبوابها مغلقة؟ أم أن هناك حربا وحصارا؟"
نظرت إليه طويلا ثم قلت: "هل معك هوية؟"
- "هوة؟ ماذا تقصد؟"
- "هوية، بطاقة شخصية.. جواز مرور .. أي شيء يثبت شخصيتك .."
- "إنني لا أكاد أفهمي يا ولدي"
- "الإسرائيليون يا أمير المؤمنين لن يَدَعُوك تمر!!"
- "أهم قطاع طريق أم جيش مهاجم؟"
ارتميت لدى قدميه أسكب الدموع، كنت أهذي وأقول: "القدس تحت نير الاحتلال.. أخذوا القدس القديمة هي الأخرى، القدس العربية في نكبة "حزيران"..
دورياتهم تجوب الشوارع، وتقف على نواصي الحارات وتراقب المارة وتفتش السيارات، لا يفلت منهم أحد، حتى النسوة والأطفال والعجائز، تغيرت الدنيا وظاهرتهم أمريكا.. العار يفرخ في أرضنا التعسة منذ سنين .."
قرأت الحيرة في عينيه وعلى وجهه المشرق وشرح لي أنه يقف الآن وبيني وبينه أربعة عشر قرنا من الزمان، واعترف في تواضع أن كثيرا من الكلمات التي قلتها
لم يستطع أن يفهم معناها تماما مثلما حدث في القديم عندما دخلوا بلاد فارس والرومان، ووجدوا كثيرا من التقاليد واللغات والأسماء والمصطلحات التي تختلف اختلافا كبيرا عن مثيلاتها في بلاد العرب،
وطلب مني أن أشرح له معنى الاحتلال وحزيران وأمريكا والسيارات، وهممت بالحديث، لكن هديرا صخابا سد أسماعنا، وبدد السكون، ورأيت الخليفة يرفع عينيه إلى السماء مستغربا، وتمتم: "السماء تقذف بالشهب والحمم .."
تأليف: الأديب الكبير نجيب الكيلاني
كتبها: موقع الشرقية أون لاين
أضف تعليقك