في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م) كانت الدولة العثمانية تحارب في صف ألمانيا ضد إنجلترا وحلفائها.
وفي عام 1917م دخل الجيش الإنجليزي بقيادة الجنرال "اللنبي" (1816 - 1936م) مدينة القدس، وهزم القوات التركية المتحالفة مع الألمان، وقال "اللنبي" يومها كلمته الشهيرة: "اليوم انتهت الحروب الصليبية".
ولم يكن "اللنبي" وحده هو الذي أفصح في القرن العشرين عن حقيقة الروح الصليبية القديمة والدفينة، والتي تحرك وتقود الجيوش الاستعمارية الغربية، حتى في عصر "الحداثة" و"العلمنة" و"التنوير"، فمجلة "بنش Punch" الانجليزية نشرت يومئذ رسما كاريكاتوريا "لريتشارد قلب الأسد" (1157 - 1199م) - الملك الانجليزي الصليبي الذي حارب صلاح الدين الأيوبي (523 - 589 هـ ، 1137 - 1199م) في فلسطين- وكتبت: - على لسانه - تحت الرسم: "أخيرا تحقق حلمي"!، وفوق الرسم عنوان: "آخر حملة صليبية"!.
وإذا كان مفهوما أن تحتفل انجلترا وحلفاؤها بانتصارها على الأتراك والألمان في القدس عام 1917م، وأن ترى في هذا الانتصار تحقيقا للأحلام الصليبية التي حاربوا من أجل تحقيقها قبل قرون، فإن المفاجأة المذهلة التي بلغت درجة العيار الثقيل - يومئذ - كانت احتفال الكنائس الألمانية - الكاثوليكية والبروتستانتية - بهزيمة وطنها ألمانيا في القدس أمام الجيش الانجليزي لأن احتلال القدس من قبل الإنجليز - رغم أنه هزيمة وطنية لألمانيا - هو انتصار للصليبية الغربية على الإسلام في القدس الشريف!
ولقد ذكر هذه الحقيقة المذهلة - التي تفجر ملكات الوعي بالتاريخ - مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني - (1311 - 1394 هـ ، 1894 - 1974م) الذي كانت إقامته محددة في فرنسا عقب هزيمة المحور في الحرب العالمية الثانية - عندما قال للدكتور توفيق الشاوي (1336 - 1430 هـ ، 1918 - 2009م): "ألا تعلم يا توفيق أنه أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما كانت الإمبراطورية العثمانية متحالفة مع ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا، وكان المسلمون يضحون برجالهم ومستقبلهم من أجل انتصار ألمانيا، ومع ذلك، عرفت أنه عندما دخلت الجيوش الانجليزية القدس واحتلت فلسطين، أمرت بعض الهيئات المسيحية بدق أجراس الكنائس في جميع أنحاء ألمانيا - الكاثوليك والبروتستانت - احتفالا بانتصار المسيحية على الإسلام، واستيلائها على القدس الشريف"!!
فالصليبية فوق القطرية والوطنية، والانتصار على الإسلام يجمع الفرقاء الوطنيين الغربيين المتحاربين، فهناك تناقضات عدائية بين الصليبية الغربية وبين الإسلام، تعلو وتحكم التناقضات الثانوية بين أوطان الغربيين الذين كانت أغلب تناقضاتهم حول اقتسام كعكة عالم الجنوب، وفي المقدمة منه عالم الإسلام.
ولقد كانت القدس - التي أطلق عليها أمير الشعراء أحمد شوقي (1285 - 1351 هـ ، 1871 - 1932م) لقب "سيدة القرى" بينما مكة هي "أم القرى" - كانت هذه المدينة المقدسة - على مر تاريخها الطويل هي رمز الصراع بين الغرب الصليبي والشرق الإسلامي، وكانت أيضا بوابة الانتصارات في هذا الصراع.
أضف تعليقك