امتد بنا الطريق، وأنا أشعر بسعادة غريبة، ألست الرجل الموعود الذي كان له شرف الصحبة مع رجل ذكره يتردد على حقب التاريخ كأعظم ما يكون الرجال، وأنا أسير إلى جواره لا أكاد أصدق، سألني صديق ذات يوم عن العصر الذي أتمنى أن أعيش فيه، وكنت أقول له دائما إنني أعشق عصر النبوة وما فيه من رجال وصراع، وهذا عبق من عطر النبوة، إنني مشفق من المستقبل، لكني سعيد برغم الهواجس التي تلعب برأسي.
وعلى يسار الطريق قامت شجرة فارهة تتدفق حيوية وتتدلى أغصانها الخضراء حتى تكاد تلامس الأرض وإلى جوارها خيمة صغيرة مزركشة تراقص فيها الألوان المختلفة والستائر الفضية، وتحت الشجرة جلس فتى وفتاة، وكانت يد الفتى تطوق عنق جار الفاتنة ذات الشعر الذهبي، ورأسهما متلاصقان، ويدها في يده الأخرى، وكانت نظراتهما تقطر رقة ونشوة، لا يكادان يشعران بما حولهما، يهيمان في دنيا حلم رقراق جميل، وأمامهما زجاجة بها سائل قاتم اللون وكأسان، اتسعت عينا عمر دهشة، وهتف: "ما هذا الذي يحدث على قارعة الطريق"
- "طقوس الحب يا أمير المؤمنين .."
زمجر مهتاجا: "لا يصح أن يجلس زوجة وزوجة هكذا أمام الناس"
تحيرت، ولم أستطع في البداية أن أعلق، لكني قلت: "إنهما صديقان.. هذا إيلي وصديقته.. إنني أعرفهما.. "
هدر: "ماذا تعني؟ بأي حق ترتكب هذه الدعارة"
- "لا شأن لنا بهما يا أمير المؤمنين"
- "اصمت يا رجل .. الساكت عن الحق شيطان أخرس، هذا انحطاط لا مثيل له، يجب أن يساقا إلى حيث ينالان الجزاء العادل .."
واندفع عمر نحوهما في ثورة، ثم وجد غصن شجرة جافا ملقى في الطريق، فالتقطه وأمسك به في تحد، وما إن بلغ مجلسهما حتى صاح: "إنكما تمعنان في السفه والقحة"
فرطن الفتى بكلمات لم يفهم عمر معناها ثم مال إلى فتاته يقبلها عابثا ساخرا، وأمسكت بذراع الخليفة وأخذته إلى الوراء خطوات وقلت: "أيها الخليفة .. لا شأن لك بهما، وليس من اللائق أن تفسد عليهما متعتهما، إن لهما الحرية كل الحرية فيما يفعلان، هذا حقهما، وإن لم تنصرف فلسوف يبلغان عنك الشرطة .."
ضرب عمر كفا بكف وقال: "في أي مكان نحن؟ أنا لا أكاد أصدق ما يجري، من أحق بالعقاب والمحاكمة، أنا أم هما؟!
قال عمر وهو يلوح بيده: "وأين خليفة المسلمين في المدينة؟! وأين ولاتنا في الجزيرة العربية والعراق وفارس ومصر؟! أين ألوف الألوف من حملة الرايات والمصاحف يا جيل الهوان والسخريات والعبث؟!"
حاولت تهدئة خاطره، كنت أرى أن يعتصم بالهدوء في مواجهة واقع أليم يفيض بالتحديات والانحرافات، ولم يكن هناك من وسيلة سوى أن أوضح له الحقائق في كلمات سريعة.. حاولت إعطاءه صورة لما حدث في عصرنا للمسلمين وكيف ضعفوا واستخذوا وكيف داهمتهم أوربا بعلمها وخبثها وأحدث آلات الدمار التي استحدثتها، فاحتلت بلادهم سنين طويلة، وكيف نفثت سمومها في فكرهم ودينهم وتراثهم فأثارت في صفوفهم البلبلة والاضطراب وملأت حياتهم بالشكوك والأكاذيب ثم كيف تيقظ المسلمون وحاولوا استرداد حريتهم وبلادهم، وشرحت له ما جرى للخلافة من وهن ذاتي وكيف تآزرت قوى الشياطين للقضاء عليها، ثم القيم الجديدة التي تحكم عصرنا وكيف تحول المسلمون إلى مجرد مدافعين عما تبقى لهم من شيء قليل وكيف انقسم الحشد الواحد إلى قوقعات صغيرة معزولة تجتر كل واحدة أساها، وتنعي حظها، ولم يزد عمر على أن قال والدموع في عينيه: "عادت الجاهلية كأعنف وأخبث ما يمكن .."
تأليف الأديب الكبير : نجيب الكيلاني
كتبها: موقع الشرقية أون لاين
أضف تعليقك