• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

"إيه طلباتك؟ عايز إيه وإحنا نعمله؟".. كان هذا هو السؤال الذي طرحه عليّ اللواء.... (مساعد وزير الداخلية) داخل زنزانتي رقم 9 في سجن العقرب الفارغة من كل مقومات الحياة، وذلك بعد يومين اثنين فقط من قيامي بفضح وقائع التعذيب أمام المحكمة في يوم 20 مايو/أيار 2017؛ والتي جرت داخل السجن من الدخول علينا بالسلاح الناري الحي وإطلاق الكلاب البوليسية وإلقاء المواد الكيماوية الحارقة في وجوه البعض منا وغير ذلك.

وفي الحقيقة كان قائد هذه الحملة البربرية علينا من أجل مساومتنا سياسياً هو نفسه صاحب هذا السؤال!! ولكن بعد أن فقد الأمل وألقى عن كتفيه ريش الطاووس الذي جاء به أولاً، وهذا حال كل ظالم غشوم... سرعان ما تجد الهزيمة بين عينيه، واليأس أمام ناظريه؛ لا سيما وقد قلت له: "انتم مش هتقدروا تكمّلوا أكتر من كده.. لا يمكن تعبئة الجيش والشرطة لمدة أطول.. لا يوجد إنسان يستطيع أن يعيش لفترات طويلة وهو تحت كل هذه الضغوط من قلق وتوتر واضطراب واكتئاب!"، فإذا به يقاطعني وهو ينظر في عينيّ بصوت كله أنين: "كأنك بتوصف حالتي"! فسبحان الذي أنطق كل شيء.

أقدر جيداً حجم المصائب التي يقع تحتها الشارع المصري الآن، بل الأمة كلها، وأؤمن تماماً أن تتابع هذه المصائب -والتي لا تأتي فرادى- إنما هو لحكمة عظيمة وسنة لا تتبدل ولا تتغير، وذلك حتى يشتد عود الأجيال الجديدة والمنوط بها إحداث التغيير في واقعنا، فتخرج أمضى عزيمةً وأقوى منعةً وأكثر صلابة، فإذا بها قد حازت "قوة القلب" الذي لا يعرف الحزن إليه طريقاً؛ فلا يأسى على شيء فاته ولا يجزع لشيء أصابه.. يقول العلي الكبير {فأثابكم غمّاً بغمٍّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم}.. وأصارحكم، إن قلوب هذه الأجيال الجديدة هي سبيكة الذهب، لا تزيدها نيران الابتلاءات إلا جودة وصفاء، والشاعر يقول:

لعل عتبك محمود عواقبه ** فربما صحت الأجسام بالعلل

إن تداول الأيام بين الناس حقيقة لا ينكرها أحد، وقد جاء شارل ديغول في فرنسا بعد أن ظن أهلها أنهم فقدوا مثل هذا الصنف من الرجال الأقوياء، بينما رحل الطاغية بينوشيه من تشيلي بعد أن توهم البعض أن الأرحام لا تدفع من بداخلها إلا بإذنه، وأقام عمر بن عبد العزيز الدنيا بالعدل بعد أن هدمها الحجاج، وقال الناس ساعتها متعجبين: أيأتي عمر بعد الحجاج؟! فأجابهم الحسن البصري: "لا بد للناس من تنفيس".. دوام الحال من المحال.

إننا نحتاج إلى أمرين -من وجهة نظري- الأول: علينا أن نعزز الثقة في أنفسنا وفي قادتنا على مواصلة طريق التغيير، فإن أخطر ما نتعرض له بمرور مزيد من الوقت هو أن يدب في قلوبنا مرض "فقدان الثقة" وهو ما حذر منه كبار الكتاب الذين لخصوا لنا تجربة الثورات الإنكليزية والفرنسية وغيرهما( 1).

أما الأمر الثاني: فعلينا أن نهجر مجالس اللطم وأحاديث الندب، وأن نفارق الذين ينوحون ليل نهار في بكاء وعويل على ما جرى وحدث وفات، وكم بالحري أن نعزل المعوّقين والمرجفين من بين صفوفنا، وأن نمضي قدما لا نلوي على أحد.
إن أكثر الخطباء تعبئة للجماهير من يخطف فيقول: "إننا نؤمن بالغد"، وأكثر الكتاب تفاؤلاً من يكتب فيقول: "إنني أثق بالمستقبل"، ولكن الأجيال الحاضرة بالمشهد ترجو الله واليوم الآخر حيث المنتهى من الرجاء، وقال المسيح -عليه السلام- معلما تلاميذه: "كونوا مستعدين لمجاوبة كل من يسألكم عن سرّ الرجاء الذي فيكم".

إن أحلك الفترات سواداً هي التي نطمع عندها بحدوث تغيير كبير، وإن الله "نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" [حديث صحيح]، ثم كان ماذا؟.. كانت اللحظة التي أشرق فيها نور محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فسيروا قُدُماً فاليأس حليف الظالمين.

ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل.. دمتم واثقين

(من داخل قفص الاتهام أثناء محاكمتي)


1 - (مثل الكاتب المسرحي والمؤرخ الإنكليزي الكبير هربرت سبنسر في كتابه "الثورة والدين" والكاتب النمساوي الأصل أوزفيلد كوليه)

أضف تعليقك