ضرب عمر كفا بكف وقال: "في أي مكان نحن؟ أنا لا أكاد أصدق ما يجري، من أحق بالعقاب والمحاكمة، أنا أم هما؟!
لاشك أنهما أصيبا بلوثة من الجنون .. إنهما ينشران السوء والفاحشة .."
عدت إلى الإمساك بيده المرتجفة وقلت ضارعا: "هما يهوديان، ومن أصحاب الأمر والنهي وما علينا إلا أن ننصرف وإلا .."
نزع يده في عنف وقال: "يهوديان؟ لم تتغير طبائعهم منذ قديم الزمان كانوا بالأمس يستترون في بيوت الدعارة والمجون واليوم ينشرون فسقم علانية، إذا لم تتركني فسأضربك أنت الآخر .."
حاولت أن أشرح الأمر من جديد فاليهود يحكمون المدينة، ومعظم النساء في عصرنا سافرات، وفتيات الجيل وفتيانه لهم حق التصرف بحرية إلى مدى بعيد، أصبح ذلك أمرا يكفله القانون،
والتصدي لهذا "الحق" يجر إلي عديد من المتاعب، لكن عمر كان يغلي من الغضب، وصاح صيحة زلزلت الفتى والفتاة، فساد وجههما الشحوب والخوف، وانقض عمر عليهما ضربا بالعصي،
مما جعلهما يفران مذعورين ويلجئان إلى "بيارة" قريبة، بعد أن تحطمت الزجاجة والكأسان بينما وقف عمر يلهث غاضبا، ويهز العصا في يده، وتمتم: "أرى الفساد قد استشرى بصورة مزعجة"
قلت: "طريق العودة إلى الله تسده صخور هائلة من الفساد" ..
- "المؤمن الحق لا يعرف المستحيل، تخر الجبال لتقواه صاغرة .."
ثم التفت إلى الزجاج المحطم والسائل المراق وقال: "ما هذا؟
- "خمر .."
عض على شفتيه في ذهول: "دعارة .. خمر .. في ضوء النهار، ولا يخافان إقامة الحد عليهما؟!"
قلت: "لك الله يا عمر!! لقد أُبطلت الحدود، والخمر تباع في كل مكان، الحكام يشربونها في الحفلات العامة،
وفي بيوتهم يتساقونها علانية وكأنهم يتساقون أقداحا من القهوة .. وبيوت الدعارة تأخذ تراخيص من الحكومة ويحميها القانون .. لقد أصبح للفساد قوانين تنظمه وترعاه .."
وابتلعت ريقي ثم استطردت: "ليس هذا فحسب، بل في أغلب أنحاء الدنيا .."
التفت إلي قائلا: هل أنتم مسلمون حقا؟!"
- "أجل .."
- "وما دليلك؟"
- "ما زلت أقول الشهادتين .. لكن"
- "لكن ماذا؟"
- "اليهود يحكمون.. ورئيسة وزرائهم امرأة يقال لها جولدامائير .."
قال عمر وهو يلوح بيده: "وأين خليفة المسلمين في المدينة؟! وأين ولاتنا في الجزيرة العربية والعراق وفارس ومصر؟!
أين ألوف الألوف من حملة الرايات والمصاحف يا جيل الهوان والسخريات والعبث؟!"
حاولت تهدئة خاطره، كنت أرى أن يعتصم بالهدوء في مواجهة واقع أليم يفيض بالتحديات والانحرافات، ولم يكن هناك من وسيلة سوى أن أوضح له الحقائق في كلمات سريعة..
حاولت إعطاءه صورة لما حدث في عصرنا للمسلمين وكيف ضعفوا واستخذوا وكيف داهمتهم أوربا بعلمها وخبثها وأحدث آلات الدمار التي استحدثتها، فاحتلت بلادهم سنين طويلة،
وكيف نفثت سمومها في فكرهم ودينهم وتراثهم فأثارت في صفوفهم البلبلة والاضطراب وملأت حياتهم بالشكوك والأكاذيب ثم كيف تيقظ المسلمون وحاولوا استرداد حريتهم وبلادهم،
وشرحت له ما جرى للخلافة من وهن ذاتي وكيف تآزرت قوى الشياطين للقضاء عليها، ثم القيم الجديدة التي تحكم عصرنا وكيف تحول المسلمون إلى مجرد مدافعين عما تبقى لهم من شيء قليل
وكيف انقسم الحشد الواحد إلى قوقعات صغيرة معزولة تجتر كل واحدة أساها، وتنعي حظها، ولم يزد عمر على أن قال والدموع في عينيه: "عادت الجاهلية كأعنف وأخبث ما يمكن .."
أخذت أهز رأي وأقول: "نحن في حاجة إلى نبي جديد"
تأليف الأديب الكبير : نجيب الكيلاني
كتبها: موقع الشرقية أون لاين
أضف تعليقك