تمر بنا الأيام، وتأتي الذكريات التي تتعلق بالجريمة الكبرى التي تتمثل في مذبحة ميدان رابعة العدوية في القاهرة في أغسطس/ آب 2013.. رابعة هنا هي الرمز الذي يعبر عن الاستبداد والخراب واستباحة النفوس والاستهانة بالحرمات، هي التي ترتبط بالإنسانية، وكيف يمكن أن تشكل في داخل الإنسان مقياس الإنسانية، المقياس الفطري العجيب، لأنه في واقع الأمر هو ما يكون به الإنسان إنسانا يُحترم فيه روح الإنسانية فيه، وكل ما يتعلق بحرمة الإنسان التي أشير إليها من أن دم المسلم أعز على الله من حرمة الكعبة، بما يشكل قدسيةً لهذه النفس، وتكريما لها، جعله الخالق مرتبطا بإنسانية الإنسان وخَلقه وكرامته وشرفه وعزته.
بعد ثورة يناير، واجهنا في مصر زلازل عدة، وتوابع كثيرة. تتمثل تلك الزلازل في أربعة كبرى، زلزلت النفوس وحيّرت العقول. بدت الأمور في أوانها معقدة متراكمة، قد لا يتحملها أي عقل، حينما تتوارد الأحداث ونقائضها في فترة وجيزة، وتتكثف وتقع بين الأمل والرجاء واليأس والإحباط. إنها المعادلة الخطيرة، معادلة النفس الإنسانية التي تتزلزل من أحداثٍ كبرى، فتطيّر اللب والعقل، ولا يجد بعض الناس تفسيرا مقنعا لما يحدث، وربما لما سيحدث.
كان الزلزال الأول زلزال الثورة، وعلى الرغم من أنه شكل نيلا من رؤوس الفساد والاستبداد، وعلى الرغم من أنه كان من صنعة شبابٍ استطاعوا، بأعمالهم وخطاباتهم وقدراتهم، أن يحرّكوا الراكد ضمن احتجاجات كبرى، كان لها من التأثير ما لا يستطيع أحد إنكاره، حتى المعادون للثورة، والذين عرفوا أنه يمكنهم أن يفعلوا ذلك. صحيح أن هؤلاء انتبهوا إلى اتخاذ خطواتٍ وإجراءاتٍ لتطويق تلك الثورات وإجهاضها، لكنهم يعرفون أن الأمر يتعلق بإرادةٍ يمكن أن تبرز، بعد فترة أو بعد زمن ليس طويلا.
أما الزلزال الثاني فشكلته الثورة المضادة، أو بالأحرى وبمعنى أدق المضادون للثورة الذين اجتمعوا في الحلف الأسود من كل فج عميق، وخرجوا من بطون الدولة العميقة، في قبح "صرنا لا نحصي أعداد القتلى ومن استشهدوا ولا ذنب لهم سوى أنهم أرادوا العيش في وطنهم أعزّاء" مصالحها ومسالك فسادها، فاجتمعوا على مصالح آنية وأنانية، يحاولون منع أي تغيير ودفعه، وإقامة أوثان الأمر الواقع، بكل ما تعنيه من عبوديةٍ وذل ومهانة، وبدا هؤلاء، بعد تواطؤهم وتآمرهم على الثورات، يحاصرونها بمساعدة ودعم من قوى إقليمية ودولية، تحاول تبديد تلك الثورات، وتشتيت أهدافها، بل والنيْل من كل رموزها في كل مكانٍ قامت به، في تونس ومصر وسورية، وفي كل مكان هبت عليه نسائم الثورات، وأكدت على مسيرة تغيير جديدة.
إلا أن هؤلاء، بحلفهم الأسود، نجحوا في تطويق هذه الثورات وإجهاضها، وحاولوا من كل طريق أن يحرفوها عن هدفها ومقصدها، وأوصلوا بعضها إلى حافة الاقتتال الأهلي، وتسليح بعضها، وتحولها من الاحتجاجات السلمية إلى حالة معسكرة. وفي بعضها، قامت انقلابات صريحة من العسكر، أو من مالكي القوة والسطوة، واستطاعوا تحقيق بعض الانتصار على هذه الثورات في عملية التدافع المستمرة بين ثورةٍ تغير ومضادّين لها، لا يريدون التغيير أو النهوض، ولكنهم فقط يعملون لمصالح حلفهم الأسود، زلزال آخر ضد نجاح الثورات يسعى إلى تشتيتها بانقلابات واقتتالات وعسكرة.
أما الزلزال الثالث فهو بيت القصيد زلزال مذبحة رابعة وأخواتها.. زلزال رابعة سوابقها ولواحقها.. لا نقول رابعة هنا إلا رمزا لممارسة الطغيان، حين يصل إلى ذروته، فيستهين بحرمة نفس الإنسان، ويذهب بالروح، ويخرّب كل عمران. لا يهمه هدم بنيان وقتل كل إنسان، إن هذا وإن حدث في مصر، فقد حدث في بلدان عربية أخرى، استخفت بدم الإنسان، فقتلت وأحرقت ودمرت، وفعلت كل فعل ضد الحرمات الإنسانية، ولم تقم أي وزن للإنسان، ولا قدسية الروح التي خلقها الله محرمةً ومقدّسة. كانت رابعة زلزالا، أدى ببعضهم أيضا إلى الوقوف مع الطاغية، يصفقون له على ظلمه وغدره، ويدعمونه على قتله وجرائمه. ولعل عبد الفتاح السيسي الذي فعل هذا قد طلب تفويضا للقتل، فأعطوه، فاستخف بدم الإنسان، واستخفوا هم بعملهم في دعمه، بل أنهم صفقوا لإراقة الدماء تحت مبرّراتٍ وحجج واهية وتافهة، لا ترقى بأي حال إلى إعطاء التفويض بالقتل وإلى الاستخفاف بالروح.
كان السيسي، في هذا المقام، يقوم بدور المجرم الطاغية، وكان هؤلاء يقومون بدور المستخف به، فأطاعوه، فكانوا في مجتمع الفسق سواء. أما إذا صنفنا هؤلاء، فإننا نضعهم تحت خط "نجحوا في تطويق الثورات وإجهاضها، وحاولوا من كل طريق أن يحرفوها عن هدفها ومقصدها" الإنسانية، ولا يلزمون في كل أمر يتعلق ببناء المجتمعات وتغييرها، طالما استخفوا بالنفس التي حرم الله قتلها. زلزال الانسانية ذلك عبر عن زلزال خطير زلزل الشباب. وبدا هذا الأمر يعبر عن حالةٍ أفقدت بعض الشباب كل آمالهم في التغيير. شعر هؤلاء أن المجتمع تحول إلى تمزيق بعضه بعضا، وبات يحرّض على قتل بعضه، فكانت تلك القضية أكبر خطيئةٍ تصادف المجتمع، فتشقه شقا طوليا، فيفرّق ما بين حد الإنسانية والخروج عليها.
أوصلتنا هذه الحالة إلى الزلزال الرابع، حيث نرى وقائع وفصولا تتجدّد وتتمدّد كلها، تتعلق بما يمكن تسميتها صفقة القرن. وهنا، فكل الذين قاموا بالثورات المضادة، وساندوا الانقلابات، باتوا لا يعملون إلا ضد مصلحة أوطانهم، ولا ينظرون إلا إلى كراسيهم، وما تحت أقدامهم، يحاولون حمايتها من كل طريق، ويرتكبون في سبيلها كل الجرائم الموبقات، إلى الدرجة التي يتبنون فيها مصالح الكيان الصهيوني، وكأنها مصالحهم. ومن هنا، تمر صفقة القرن، بصفحاتها السوداء، على كثير من دولنا التي باتت مهدّدة، ويعتقد هؤلاء أن سلامة كراسيهم المنتهى، والهدف الأكبر الذي لا يحيدون عنده، حتى لو خربت المجتمعات، ونقضت كل القيم والأساسيات.
ها هي رابعة تطل علينا من جديد، وحينما تطل علينا بمعنى الإنسانية، فإنها تذكّرنا بمعاني المسؤولية، ليست فقط مسؤولية الطاغية الذي تبجّح يوما ما ليذكّر هذا الشعب بأيامه القبيحة، من انقلاب سافل فاجر، ومن تفويض ظالم، ومن قتل وحرق وترويع، يعتبر ذلك كله من إنجازاته، وهو المخرّب الذي يخرّب الوطن، وينقض علاقاته، وينسخ قيم التأسيس فيه، وهي مسؤولية لمن فوّضوا، وعليهم أن يثبتوا ندمهم على ما ارتكبوه في حق الإنسانية على هذا التفويض الظالم الذي حرّك تلك المجزرة وأخواتها، في استهانةٍ بكل روحٍ إنسانية، جعلت قتل الإنسان طقسا يوميا وسلوكا مستخفا، وصرنا لا نحصي أعداد القتلى، ومن استشهدوا ممن لا ذنب لهم سوى أنهم أرادوا العيش في وطنهم أعزّاء. كرماء.
تقع المسؤولية الكبرى، في حقيقة الأمر، على من لهم مصلحة في إحياء الثورة، طلبا للتغيير، ذلك أن تفرّقهم وتبادل السباب والهجاء بين بعضهم بعضا، وتخوين بعضهم، والذي وصل، في أحيان كثيرة، الى حد التكفير الديني أو السياسي، إنما يعد، ولو بشكل غير مباشر، مساندة للطاغية. وهم في حكم من فوّضوه، لأنهم لم يفعلوا كل أفعالٍ تحقق أهداف الثورة، وآمال أمة وأشواق مواطن، واستخفوا بذلك كله، حتى دم رابعة.. فانحرفوا في وجهتهم، وصاروا يتقاتلون على اختلافاتٍ نراها جزئية، فضيعوا الهدف الكبير، ماذا يمكن أن ينقذنا غير زلزال رابعة على واقعنا المرير، وعلى أمر خطير، وعلى ثوراتٍ كادت تضيع أبناءها وتشتت أهدافها. الوفاء لشهداء كل ثورات العرب، بما فيها ثورة مصر، يعني الكثير، فيما يتعلق باستشعار المسؤولية الكبرى في استعادة الثورة قيما وروحا، حتى تحقق أهدافها.. استقيموا يرحمكم الله!
أضف تعليقك