ليس لمثلي أن ينسى رابعة وأنا الذي كتب الله لي عمرا جديدا يوم فضها حين كادت إحدى الرصاصات تودي بحياتي، ومرت من فوق ظهري ليس بيني وبينها سوى سنتيمترات لتستقر في جسد طبيب معالج في المستشفى الميداني بالمسجد الذي احتمينا به من رصاص الجيش والشرطة.
رابعة محفورة في أعماق ذاكرتي كما الكثيرون ممن حضروها، سواء خلال أيام وليالي الإعتصام أو يوم الفض الدامي، وقد ظلتت لفترة طويلة أعاني نفسيا من هول ما شاهدته يوم الفض من مشاهد لا يمكن أن يصدقها عقل، ولا يمكن أن يتورط فيها إنسان، وهي عندي بمثابة خط الاستواء الإنساني الذي أقيس عليه البشر، فمن شارك في القتل أو حرض عليه، أو رقص على الأشلاء، أو برر تلك المذبحة فهو عندي ليس إنسانا، ويظل كذلك حتى يعتذر عن موقفه لأولئك الشهداء الأبرار وأسرهم، ولنا جميعا من عن تلك المحرقة (مع ضرورة محاكمة القتلة طبعا).
أربع سنوات مرت على مذبحة القرن كما وصفتها بحق تقارير حقوقية دولية، لم ننس خلال هذه السنوات الأربع يوما واحدا شهداء اعتصام الحق والحرية والكرامة، وكيف ننسى وكل من حضروا ذلك اليوم كانوا مشاريع شهداء بعد أن اتخذ السيسي وعصابته قرارا بفض الاعتصام باستخدام كل وسائل القوة المميتة حتى لو قتل كل المعتصمين، متراجعا عن خطة فض الاعتصام خلال يومين عبر قنابل الغاز، ليس من المبالغة في شيء وصف تلك المذبحة بـ"الهولوكست المصري" التي تظل المسؤولية عنها في رقاب كل من قرر ونفذ وبرر وحرض، وحتما سيأتي اليوم الذي تقتص فيه العدالة من هؤلاء المجرمين القتلة أو من بقي منهم على قيد الحياة، فمثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.
سنوات أربع على فض رابعة، واستشهاد مئات بل آلاف المصريين فيها وفي غيرها من الميادين، وطوال هذه السنوات الأربع لم يتوقف سلسال الدم في مصر، ولم يوقف هذا النظام استهدافة للمصرييين الذين يناهضونه، رغم أنهم يمارسون حقهم في التعبير بسلمية وبصدور عارية، لم يعد القتل على وتيرة واحدة، بل تنوعت أشكاله بين قتل في المنازل وفي الشوارع، وللمختفين قسريا في مراكز أمنية، وعبر أحكام إعدام هزلية، هذه الدماء التي تسيل يوميا ليست مياه حمراء، وليست دماء أعداء، بل هي دماء مصريين أحرار، سعوا لرفعة بلدهم والدفاع عن إرادتهم وكرامتهم، وهذه الدماء التي تسيل لن تحقق أمنا ولا أمانا ولا استقرارا لعصابة القتلة، بل ستمثل وقودا دائما لمقاومتهم حتى الخلاص منهم.
هل يعقل أنه لا يزال هناك عدد من المفقودين منذ فض رابعة وحتى اليوم لا يعرف ذووهم عنهم شيئا وهل هم أحياء أم أموات؟ هل يعقل أن هناك محبوسين في السجون المصرية منذ الفض حتى اليوم دون تقديمهم لمحاكمة؟ هل يعقل أن مصريين لا يزالون يرددون أسطوانات مشروخة أملتها عليهم أذرع الانقلاب عن وجود أسلحة ثقيلة في رابعة والنهضة بينما تم الفض منذ أربع سنوات ولم تعثر أجهزة الأمن على شيء منها؟ هل يعقل أن البعض لا يزال يستنكف حتى الآن عن الاعتذار عن جريمة مشاركته بالتحريض أو التبرير أو حتى الصمت عن تلك المحرقة؟ وأخيرا هل يعقل أن الأمم المتحدة عجزت عن تشكيل لجنة تحقيق دولية في تلك المحرقة كما حدث في مذابح دولية مشابهة مثل مذبحة السلام السماوي (تيانانمن) في الصين عام 1989، و مذبحة سربرنيتسا في البوسنة عام 1995، وصبرا وشاتيلا عام 1982، ومذبحة التوتسي في رواندا في العام 1993، الخ.
لقد أثبت تحقيق منظمة هيومن رايتس ووتش الذي استمر لمدة عام كامل، وصدر في الذكرى الأولى للفض قيام قوات الجيش والشرطة، على نحو عمدي وممنهج، باستخدام القوة المميتة والمفرطة في عمليات الفض، مما أدى إلى مقتل متظاهرين على نطاق لم يسبق له مثيل في مصر. وخلص تقرير المنظمة الحقوقية الدولية "إلى أن عمليات القتل لم تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان فحسب، بل إنها ترقى على الأرجح إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية، بالنظر إلى اتساع نطاقها وطبيعتها الممنهجة، وكذلك إلى الأدلة التي توحي بأن عمليات القتل كانت جزءاً من سياسة تقضي بالاعتداء على الأشخاص العزل على أسس سياسية".
بعد 4 سنوات من النزيف اليومي للدماء المصرية آن لهذا النزيف أن يتوقف، وآن لهذه السلطة التي ولغت في دماء المصريين أن ترحل، وآن للقوى الوطنية أن تتكاتف لمنع سقوط أي دماء مصرية جديدة، فكل الدم المصري حرام، سواء كانت من مدنيين أم عسكريين، إن احترامنا وتقديرنا لدماء شهداء رابعة وغيرها من المجازر، والتمسك بالقصاص العادل لهم لا يعني أننا اعتدنا منظر الدماء، ولا أننا نسعد بسقوط المزيد من الضحايا، فالدماء تولد دماء، وتولد ثارات لا تنتهي، وما أحوجنا اليوم للتسامح والحوار والتآلف بيننا كمصريين فرقت سلطة الانقلاب بيننا وقسمتنا إلى شعبين، لأنها لا تستطيع أن تعيش إلا في ظل هذه الفرقة، نحن بحاجة لاسترداد آدميتنا، وإرادتنا وكرامتنا، ووحدتنا حتى نوقف حالة السقوط والتردي التي صنعتها سلطة الانقلاب، وحتى ننهض بوطننا ونضعه في المكانة التي تليق به بين الأمم.
أضف تعليقك