• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

لا أعرف شعور القادة الإنجليز، بعد قرار الجلاء عن مصر، وقد تركوا أكبر إنجاز حضاري فيها، ممثلاً في السكك الحديدية، وتعد مصر ثاني دولة في العالم تعرف هذا الاختراع، بعد بريطانيا العظمى، وقد بدأ تشغليها في "المحروسة" سنة 1854؟!

عندما رحل الاحتلال الإسرائيلي عن سيناء، لم ينس أن يهدم كل ما بناه، وأن يخرب كل ما يعتبره إنجازاً تحقق بواسطته على أرضها، وربما تمنى الإنجليز ذلك بعد توقيع اتفاقية الجلاء مع مصر، وإن كان ليس كل ما يتمناه المرء يدركه!

في تقديري، أن هناك أمرين حالا دون تدمير السكك الحديدية بيد المستعمر، الأول أن بريطانيا العظمى، لم تريد أن تخسر سمعتها بتصرف كهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان هذا أكبر من قدرتها، لأنها عندما قررت أن تغادر البلاد، لم يكن هذا خضوعا بعد هزيمة على يد الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر سنة 1952، فقد وقع الانقلاب نفسه، لأن الإمبراطورية البريطانية، بدأت في التفكك، وهناك قوة جديدة ناشئة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت في التمدد بوجه حضاري زائف، يخفي الباطن الاستعماري، ويحقق كل أهداف أي قوى استعمارية، بدون احتلال مباشر، و بدون أن تحتمل أي تبعات يتحملها المستعمر القديم!

وكان إنشاء السكك الحديدية في مصر، من بين هذه التبعات، وأهداف المحتل البريطاني من وراء ذلك، ربط "المستعمرة المصرية" بشبكة مواصلات قوية، ليسهل حكمها من قبل السلطة المركزية الاستعمارية، كما يسهل كذلك نقل محصول القطن، من كل المديريات المصرية، ليسهل بعد ذلك نقله إلى المصانع الإنجليزية في لندن!

وأعتقد أن "الخواجة"، إذا كان قد ندم على تشييد سكك حديد مصر، فمؤكد أن نفسه قد اطمأنت، بأن التخريب سيحدث حتماً على يد الوكلاء المحليين، وما يحدث الآن يفوق أكثر أحلام هذا "الخواجة" جنوناً، عندما تتحول السكة الحديد، إلى أداة لنقل المصريين إلى الدار الآخرة، وعندما يجري الحديث مع "الوكيل العسكري"، عن أن الهيئة تحتاج إلى عشرة مليارات جنيه، للنهوض بها، يتحدث بمنطق "سمسار الأراضي"، فالفائدة التي سيحصل عليها إذا وضع هذا "المبلغ" في البنك، هي أكثر من العائد الذي يمكن أن تدره، إذا جرى تبديدها في إصلاح هيئة السكك الحديدية!

الحكم العسكري في السابق، لم يكن يفتقد للمسحة الوطنية، فعمل على الاهتمام النسبي، بهيئة السكك الحديدية، وربما كانت بواعثه هي ذات بواعث الاحتلال الإنجليزي عندما أنشاء سكك حديد مصر، لكن الصيغة الحالية تمثل الحكم العسكري في أسوأ صورة له، فالنظام القائم في مصر الآن مشغول بتدمير كل مقدراتها، ومن التفريط في الأرض، إلى التفريط في مياه النيل، ما دامت أجندته، ترضي دوائر الانقلاب الدولية، والإقليمية، وإذا كان تخريب القطاع العام في عهد مبارك، كان يتم من أجل الخصخصة استجابة لمطالب دولية ممثلة في صندوق النقد، وأيضاً للاستفادة الشخصية لدوائر الحكم في عهده، من جراء عملية البيع الفاسد، فإن السيسي يهدف من عملية التخريب، سداد الفاتورة الإماراتية التي أنفقت على الانقلاب على الثورة وعلى الحكم المنتخب!

لقد قام مبارك بإصلاحات في هيئة السكك الحديدية، لأن الهيئة كانت هدفاً بعيداً لسياسة الخصخصة، ولا أدري لماذا لا يذكر أحد أنه قام ببناء بعض المحطات، وإعادة بناء الكباري، بما يمنع من ارتطام "المسطحين" فوق القطارات بها، وهناك حوادث يومية كانت تقع، بسبب هذه الكباري المنخفضة، كما لا أنسى أن مبارك قام بإنشاء الخط المزدوج، وكانت الرحلة في البداية من القاهرة، إلى طهطا بمحافظة سوهاج تستغرق ثماني ساعات، فصارت بفضل هذا الخط تستغرق ست ساعات فقط، إلى أن انبعث أشقاها!

لقد فعل عبد الفتاح السيسي، ما لم يكن متصوراً، عندما أوقف خط السكك الحديدية لأكثر من عامين، خوفاً من أن يقوم أهالي الصعيد بالسفر للقاهرة والتظاهر ضد انقلابه، إذا دعا الداعي لجمعة الزحف إلى القاهرة، وإذا كان قد ضمن القاهرة والإسكندرية لأنهما تقعان تحت نفوذ الإخوان، وهو يعرف حدود جهدهم، فإن الصعيد خارج هذه السيطرة الإخوانية، وأخذاً بالأحوط، فقد أوقف حركة القطارات تماماً، لتتعرض خطوط السكة الحديد، إلى أكبر عملية نهب وإتلاف في تاريخها.

وبعد علمية إرهاق للثورة، تقرر أن تبدأ حركة القطارات، وبدون إصلاح، وبدون الاهتمام بوسيلة النقل الآمنة في حياة المصريين، ولم يكن "خط الصعيد" هو وحده الذي يحتاج إلى تطوير، فحاجة "خط الوجه البحري"، أكثر، لكن بدت سلطة الانقلاب ليست مستعدة لهذا العمل، لأن منطق "سمسار الأراضي"، أن الفائدة التي يحصل عليها من البنك أكبر من العائد الذي يعود عليه إذا "بدد المبلغ" على إصلاحات هيئة السكك الحديدية!

في الحقيقة أن هيئة السكك الحديدية تخسر، رغم أن إيراداتها السنوية تقترب من الثلاثة مليارات جنيه، وذلك لسوء الإدارة العسكرية، التي تدير هذا المرفق الحيوي، فالإدارة في وزارة النقل بشكل عام هي للجنرالات، ورئيس هيئة السكك الحديدية لواء سابق بالجيش، وعندما أعلن وزير النقل عزله بعد الحادث الأخير، قال إنه سيعيد تعيين رئيس مجلس الإدارة السابق وهو لواء بالجيش أيضاً.

واللافت أنه في ذات اللحظة التي وقع فيها حادث تصادم القطارين، تم عزف نغمة واحدة، بدا واضحاً أنه تم الاتفاق عليها، فالأذرع الإعلامية للسيسي قالت "في نفس واحد": لا بد من أن يشرف الجيش على هيئة السكك الحديدية، وهو ما قاله بعض النواب، بقيادة رئيس هيئة النقل، وهو جنرال بالجيش أيضاً، قبل أن نعاجلهم بأن وزارة النقل خاضعة بالفعل للواءات الجيش، وهذا سبب من أسباب فسادها وانهيار مرافقها.

في تقارير صحفية جاء أن مائة جنرال بوزارة النقل يتقاضون (50 مليون جنيه) شهرياً في حين أن رواتب عموم الموظفين دونهم لا تتجاوز الـ (8 ملايين جنيه). وأحسب أن السيسي كان يستهدف من الحادث إنشاء شركة تابعة للجيش تتعاقد مع شركة إماراتية لإدارة وتملك هيئة السكك الحديدية، كما حدث في ما سمي بتنمية قناة السويس!

واللافت أيضاً أن اللواء مدحت شوشة، رئيس هيئة السكك الحديدية كان قد أعلن عقب تنصيبه في مارس الماضي، أن خطة لتطوير هيئة السكك الحديدية قد بدأ تنفيذها على قدم وساق، ونشرت الصحف تقارير عن هذه الخطة، قبل أن نفاجأ به قبل شهرين يطلب من السيسي عشرة مليارات جنيه لتطوير السكك الحديدية، فيرد عليه هذا الرد اللائق بمن يدير طابونة لا دولة على السلطة فيها التزامات نحو رعاياها، ثم يحدث الحادث الأخير، لنكتشف أن خطة التطوير المعلن عنها في مارس هي للاستهلاك المحلي، من جنرال، هو من ورثة العسكر الذي أعلنوا عن عشرات المشروعات الرائدة، وتصنيع صواريخ وقنابل يمكن أن تبيد إسرائيل وتمحوها من على ظهر الكرة الأرضية، لتقع الهزيمة، ولا حس ولا خبر لصواريخهم وقنابلهم!

تصريح السيسي، ينتقل به من المسؤولية السياسية ليخضع تحت طائلة القانون الجنائي، لأنه قصر في تطوير هيئة السكك الحديدية فنتج عن ذلك حادث التصادم بين قطارين، وارتفاع القتلى إلى أكثر من أربعين مواطناً!

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: هل مصر كانت عاجزة عن تطوير هيئة السكك الحديدية؟!

لن أتحدث عن المال المصري الذي أنفق في مشروعات الخيال العلمي، ومن "تفريعة" قناة السويس، إلى العاصمة الإدارية الجديدة، حيث أكبر مسجد، وأكبر كنيسة، وأكبر مئذنة، إلى المال الذي تم إنفاقه بسخاء على شراء أسلحة دون الحاجة إليها، إلى ما تحملته ميزانية الدولة من رفع لرواتب القضاة والعسكريين وضباط الشرطة وميزانية ما يسمى "البرلمان"!

أمامي ثلاثة قرارات، نشرت في الجريدة الرسمية، بالموافقة على قروض من جهات أجنبية لتطوير هيئة السكك الحديدية، ولا نعرف أين ذهبت!

القرار الأول، هو قرض من البنك الدولي للإنشاء والتعمير، نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 5 أغسطس 2010، ووافق عليه مجلس الشعب في 20 مارس 2010، لإعادة هيكلة سكك حديد مصر، وقيمته 270 مليون دولار. ولأنه تم قبل عدة شهور من الثورة، فإن مسؤولية التنفيذ تقع على مسؤولية المجلس العسكري الحاكم.

والقرار الثاني، هو قرض من البنك الدولي للإنشاء والتعمير، أيضاً، تم بقرار نشر في الجريدة الرسمية في 31 مايو 2012، وهو مرسوم بقانون صادر من المجلس العسكري الحاكم، تم توقيعه في 23 سبتمبر 2011، والهدف منه إعادة هيكلة سكك حديد مصر، أيضاً. واللافت أنه لم تُذكر قيمة القرض، لأسباب لابد وأن تثير علامة استفهام، لاسيما وأنه لم يحدث أي تطوير في السكك الحديدية، إلا إذا كان قد تم على الورق فقط.

والقرار الثالث، هو قرض من البنك الأوربي وقع عليه عبد الفتاح السيسي في 21 مايو 2014، وبقرار نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 12 مارس 2015، وقيمته 126 مليون يورو، والهدف منه هو إعادة الإعمار والتنمية بشأن هيئة سكك حديد مصر!

ليصبح السؤال: أين ذهبت هذه القروض، ولم نشاهد تطويراً طرأ على "السكة الحديد"، بل تركت تدار بشكل بدائي، من قبل عسكر يتعاملون مع الوظائف الكبرى في الهيئة على أنها مكافأة نهاية الخدمة، فليس مطلوبا منهم عمل، ولن ينتظر منهم نهضة!

الذي راعني وأنا أقلب في أعداد الجريدة الرسمية، أن قرضاً دولياً حصل عليه الرئيس السادات لتطوير الهيئة، ولم يتم الاكتفاء بنشر قيمة القرض والهدف منه، ولكن نشر الاتفاق كاملاً، بكل بنوده وتفاصيله، ليطلع عليه الناس، وذلك على العكس مما حدث في القرارات الأخيرة، وأحد هذه القرارات تجاهل أن يدون قيمة القرض، بشكل مريب، وهو القرار الموقع من قبل المشير محمد حسين طنطاوي، بصفته رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة!

إنه لا أمل في النهوض بشيء في مصر، في ظل حكم العسكر، ولا أمل في أن يتم تطوير سكك حديد مصر، وهي تدار من قبل جنرالات، جاءوا للحياة المدنية ليؤكدوا فشلهم، ويدمروا الإنجاز الذي صنعه الاحتلال في بلادنا.

لقد آن للخواجة الإنجليزي، أن يرتاح في تُربته، فالوكلاء المحليون، يجهزون على إنجازهم وهذا أفضل من أن يكونوا قد دمروه هم فيعطوا مثالاً سلبياً مضافاً على فظاعة الرجل الأبيض!

ويا خواجة نام وارتاح!

أضف تعليقك