أذن فجر الأربعاء 14-8-2013 في ميدان رابعة العدوية، صلينا الفجر وجلسنا ككل يوم نستمع لكلمة من على المنصة، وبعدها نتلو الأذكار، ثم تُطفأ المنصة ويقل العدد في الميدان، ولكن هذا اليوم لم تطفأ المنصة ظلت تهتف بعد أن وصلت أخبار تفيد بوصول مدرعات للشرطة في مداخل رابعة، ذهبت أنا وصديقٍ لي اسمه محمود لأحد المداخل، وكان طريق النصر من جهة النصب التذكاري، رأينا مدرعات الشرطة وخلفها قوات الجيش، تدخل على الميدان، ولكن ظلت ما يقارب ربع ساعة واقفة دون حراك، أخبرت محمود أنها حرب نفسية، ولن يدخلو الميدان.
سمعت صوت الرصاص من أمام طيبة مول في طرق النصر، فتوجهت إلى هناك لأرى الجثث والمصابين برصاص الداخلية تتوالى على المستشفى الميداني، توجهت لشارع الطيران لأطمئن على أمي وخالتي وطفلتها الصغير ميان ذات 11 شهراً، كان الغاز قد وصل إلى وسط شارع الطيران عند بنك مصر، كانت الأم وابنتها قد اختنقتا من الغاز، بعد محاولات وكر وفر استطاع زوجها أن يخرجهما من الميدان، ويرجع هو ليكمل ما بدأ مرة أخرى.
في هذه الأثناء توجهت إلى مدخل شارع الطيران، كانت المواجهة قوية جداً بيننا وبين الداخلية بمدرعاتها وجرافاتها ورصاصها مقابل الحجارة، ظللت هناك أرمي الحجارة مع المتظاهرين السلميين أنا وصديقي محمود، ولكن سقط العديد منا بالرصاص الحي أمام أعيننا، ظللت هناك في معركة كر وفر إلى أن سقطت بجواري قنبلة غاز مثير للأعصاب، كنت شبه فاقد للوعي، لم أستطع التنفس، وصدري كان يحترق، وعيني أغرقتها الدموع، تحركت إلى داخل الميدان محاولاً البحث ولو عن القليل من الهواء النقي، ولكن حتى الهواء لم يسلم منهم، فقد كانت قنابل الغاز تُرمى من جميع المداخل، رجعت إلى خيمتنا لأطمئن على أمي، فوجدت الغاز قد وصل إليها، وبعض الطلقات من الخرطوش التي احتفظ بها خالي في جيبه، لم يكن يعلم أن صدره سيكون مستقراً لإحداها ولو بعد حين، انتقلنا أنا وأمي وخالي وخالتي وتوجهنا إلى الشارع المقابل لمستشفى رابعة المركزي فقد كان أكثر أماناً خاصة للنساء، وما إن وصلت حتى رأيت ذلك الشيخ الذي أُصيب في رأسه من قناص جبان، حاول الناس وضعه على نقالة الإسعاف ولكن لم تسمح لهم طلقات الرصاص بحمله على النقالة، الأمر الذي لا يحدث حتى في الحروب، حينها قام رجل من الإسعاف الذي لا أجد من الحروف ما يفيه حقه، قام بحمل الشيخ على ظهره والدماء تسيل من رأسه، لتبقى الأرض شاهدة له إذا ما التقى مع قاتله عند العدل في السماء، تقدم الرجل متحدياً أمطار الرصاص، واتجه إلى سيارة الإسعاف التي كانت في اتجاه ضرب النار.
رجعت مع خالي حينها إلى المستشفى الميداني، في قاعة المؤتمرات، ذلك المكان الذي تحول إلى بحيرة من الدماء تطفو عليها جثث الشهداء والمصابين، دخل رجل يحمل أخاه على يديه بعد أن أصيب برصاص القناصة في رأسه وضعه على الأرض والدماء تسيل من رأسه الذي خرج جزء منها على الأرض، جلس بجواره واحتسبه شهيداً، جلس بجواره يودعه، وإذ به يصرخ فجأة (لسه فيه نفس، هاتوا دكتور بسرعة أخويا لسه فيه نفس)، ذهب إليه الدكتور ومعه مسعف، وضع له جهاز تنفس وظل يضغط على صدره بقوة والمصاب يمر عليهم بنظرات من عينه التي بالكاد يستطيع أن يفتحها، أخذ الأخ جهاز التنفس من المسعف ليضغط هو بقوة (اصبر يا محمد معلش انت هتقوم معايا يا محمد اصبر) كانت هذه الكلمات الأخيرة التي سمعها محمد من أخيه، كانت نظرات محمد هي نظرات الوداع، مات محمد مرة لتصعد روحه إلى باريها ونحن من حوله ماتت نفوسنا ألف مرة، نقل محمد إلى غرفة الشهداء ومعه أخوه الذي تيقن أنه سيرجع وحيداً، تيقن أن محمد لن يقوم معه، دخلت معهم إلى غرفة الشهداء، وإذ بشاب يبحث بلهفة عن صديقه الذي انفصل عنه أثناء الضرب، رفع الغطاء عن الجثث واحدة تلو الأخرى، كلما رفع جثة ولم يجدها لصاحبه يدخل قلبه ولو القليل من الأمل بأن يتقابلا معاً كما تفرقا، ولكن سرعان ما تبدد ذلك الأمل؛ ليرفع ذلك الغطاء عن تلك الجثة في زاوية الغرفة وينهار على جثة صاحبه باكياً، ذلك صديقي الذي كان يرتاح قلبي للقائه، صديقي الذي رسمنا معاً أحلامنا وآمالنا، قتله شخص قاسي القلب لم يعرف عنه شيئاً، قتله بتفويض من أشخاص ظنوا أن حياتهم أغلى من حياته، هم أيضاً لا يعرفون عنه شيئاً، زادت قلوبنا ألماً وحُرقة عندما أخبره الطبيب أن ينتبه لذلك الكيس الذي يضغط عليه؛ لأن به مخ صاحبه.
كانت تلك المشاهد القاسية كثيرة في الميدان، تلك المشاهد التي كانت تطعن قلوبنا الطعنة تلو الأخرى.
خرجت من المستشفى الميداني بقلب محروق ونفس بها من الغضب على هؤلاء القتلة الكثير الكثير، ورجعت لأطمئن على أمي فوجدت تلك المرأة القوية التي تكسر الحجارة وتحملها في الأكياس ليحملها الرجال، كان الجميع يرجوها أن تقوم وتستريح قليلاً بعد طول عمل وهي ترفض أن تقوم، رجوتها كثيراً فقامت معي وجلسنا على أحد الأرصفة لنستريح، تركتني وقامت تساعد في حمل الأخشاب لكي نشعلها، كان التعب الجسدي والنفسي قد تمكنا مني، ولكن كيف أرتاح أنا الرجل والنساء لا يعرفن للراحة معنى، قمت لأعمل معهن بلا توقف، تلك المرأة العظيمة كانت أمي.
بعد طول عمل أخذت أمي وخالتي التي تفطر قلبها على زوجها والذي لم تكن تعلم عنه شيئاً، أخذتهما إلى إحدى الخيام وذهبت إلى طريق النصر باتجاه النصب التذكاري ذلك المخرج الذي قالوا كذباً إنه للخروج الآمن لمن أراد، ولكن كان الرصاص عنده كباقي المداخل إن لم يكن أكثر، وصلت هناك الساعة 3 تقريباً لأطمئن على صديقي لي، وأسال عن زوج خالتي الذي انقطعت أخباره منذ الصباح بعد بحث طويل بدون جدوى، أجبرت على الاتصال بخالتي لأخبرها أنني رأيت زوجها، وأنه بخير حتى أريح قلبها مع أن ذلك لم يحدث، ارتاح قلبها قليلاً ولكن قلبي أنا زاد ألمه عندما رأيت تلك المرأة العجوز وهي تبحث عن ابنيها أبو بكر ومهند، كانت تنادي والدموع تملأ عينيها يا أبو بكر يا مهند، يا رب لو كانوا ماتوا أنا راضية ولكن الحقني بهم، ولو كانوا أحياء يا رب أشوفهم يا رب يا رب، واستمرت في النداء على أبو بكر ومهند، واستمرت دموعي تسيل.
عدت مرة أخرى إلى شارع الطيران لأجد المدرعات والجرافات قد اقتربت جداً من وسط الميدان، كان الجميع يمشي في الأطراف خوفاً من القناص الذي رأيته وهو يضرب رصاصه الغادر من مروحية الشرطة، نعم والله كان الرصاص يطلق من المروحية، لم يكتفوا بما اعتلوا من البيوت وكأنها حرب مع عدو لدود، كان الجميع يحاول التستر بشيء، ولكن إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة، أُصيب ذلك الشاب الجميل الذي كان بجواري، كان يحلم بمستقبله، كان يحلم بحضن أمه الدافئ الذي كان في أشد الحاجة إليه، لم يكن يريد سوى مستقبل آمن له ولبلده يعيش فيه بحرية وكرامة، كان يحلم بتلك الفتاة التي عشق عيونها وأراد يوماً أن يرتبط بها، ولكن هُدمت كل تلك الأحلام برصاصة خرجت من بندقية ذلك القناص الحقير الذي لم يكن يعرف عنه شيئاً، سوى أنه أراد أن يشبع رغبته الحيوانية في القتل، سقط الشاب وسالت منه الدماء الزكية لترسم لنا طريق الحرية الذي لن نحيد عنه مهما طال الأمد وكبر الألم.
تقدمت لأقف في الصف الأول مع إخواني، واجهنا الرصاص والغاز بالحجارة كنا أبطالاً نعم أبطال، نظرت إلى خيمتنا نظرة وداع قبل أن تحرق بما فيها من متعلقات خاصة بنا، حينها تذكرت أمي وخالتي، فرجعت راكداً إلى المكان الذي تركتهما فيه لأجده قد أحرق هو الآخر وحلت المدرعات والجرافات بدلاً عن الخيام، ذهبت إلى مسجد رابعة وأنا أتمتم طوال الطريق (انت فين يا أمي، أمي، أنا عاوز أشوفك، يا رب أشوف أمي يا رب يا رب) وقلبي يحترق خوفاً عليها وخشية أن تكون هي الأخرى تبحث كما بحثت أم مهند وأبو بكر، ذهبت إلى المسجد لأجد حالي هو حال الكثيرين ممن فقدوا ذويهم ولا يعرفون عنهم شيئاً.
وأنا أبحث أمام المسجد رأيت ذلك الأب الذي يحمل ابنته بوجهها الجميل وشعرها الأصفر الذي عكر صفو جماله ما وضع عليه من خل وخميرة لينقذها من الغاز، تلك الجميلة ذات الخمس سنين تقريباً على كتف والدها وهي تبكي، رأيتها كلما ازداد صوت الرصاص تحضن أباها بقوة وتغمض عينيها الجميلتين وتخفيهما في حضن والدها، لتشعر ولو بقليل من الأمان.
صعدت فوق المستشفى الميداني - قاعة المؤتمرات- بكيس من الأحجار لنرميهم بها من الأعلى، وحين صعدت ما هي إلا دقائق حتى أطلقت قنبلة غاز لم أر بسببها شيئاً وتوالى بعدها الرصاص، تحسست الحائط حتى استطعت النزول عن السطح.
بحثت حينها عن أي شخص أعرفه ليصبر بعضنا الآخر وجدت حبيب قلبي، ولكن لم يكن من الأحياء، كانت صورة قد ألصقتها لصديقي الشهيد عمر جاد، نظرت إلى عيونه الحانيات التي افتقدها كثيراً، طلبت منه أن يدعو لنا ويذكرنا عند ربه.
جلست على الأرض وأنا أنظر إلى المصابين وهم يحملونهم لعل في عمرهم بقية، أنظر إلى الجثث بحالة من التوهان، كنت أنتظر أن يطفئ أحدهم التلفاز لتنتهي تلك المشاهد القاسية، أو أن يقول المخرج أوقفوا التصوير وينتهي الفيلم، حينها تساقطت دماء أحد الشهداء المحمولين على ملابسي لتنقلني من حلمي إلى الحقيقة.
حينها كانت النار قد التهمت كل ما في طريقها حتى وصلت من الخلف إلى عربة البث (قبل مدخل المسجد) ومن المستشفى الميداني وخلف قاعة 2، حينها لم يكن أمامنا سوى ممر ضيق بجوار مستشفى رابعة المركزي، ذلك المدخل الذي سيطرت عليه قوات الأمن، لوح إليهم بعض الرجال مع أهلهم أن معهم أطفال ونساء فأعطوهم الأمان للخروج، وما إن خرج الرجل اُطلق عليه الرصاص من داخل المدرعة...
بعدها بدقائق أقام هؤلاء المرتزقة كردوناً ليخرج منه الجميع في منظر مؤلم جداً وقاس، تخلص الجميع من أي شيء معه كقناع الغاز أو نبلة خوفاً على من معه من أهله...
كان المصابون محمولين ودماؤهم ما زالت تنزف، خرج الكثير حافي القدمين يستر جسده بقطعة قماش مقطوعة وملطخة بالدماء، كان للطريق اتجاه واحد، فمن يخرج لا يستطيع العودة مرة أخرى، حاولت امرأة مسنة في الستينيات الرجوع مرة أخرى لتبحث عن ابنها المصاب الذي لم ترَه في الخارج، ولكن رفض أشباه الرجال قساة القلوب وعامل المرأة بقسوة شديدة، غلا قلبي واشتعلت أركاني فنحن لم نُجرم نحن لم نقترف خطيئة؛ كي نعامل هكذا، فثرت في وجه ذلك الضابط وانتابتني حالة عصبية لم أكن أسيطر فيها على نفسي، أبعدني الناس من أمامه، وما هي إلا لحظات حتى قام ذلك الضابط بإطلاق كم كبير من الرصاص الحي في الهواء، فوق الأطفال والنساء والمصابين، تذكرت حينها حرب الـ?? حينما هُجر الفلسطينيون من قراهم تحت تهديد سلاح الصهاينة، ولكن هذه المرة كان السلاح بأيد يزعمون أنها مصرية.
بعد أن أصبح محيط المسجد شبه خال سُمح للمتظاهرين بالدخول لحمل الجثث والبحث عن المصابين، دخلت مع الناس علّي أساعد في حمل أحدهم أو التعرف على أحدهم، دخلت إلى مستشفى رابعة وكان الأمن قد سيطر عليه، وجدت عند الباب رجلاً كبيراً في السن يتكلم في الهاتف، فأقبل عليه ضابط حقير وضربه في يديه وأسقط منها الهاتف قال له (انت بتتكلم في التليفون ليه؟... _أنا بتصل على ابني أشوفه فين علشان آخده وأمشي... - ما تتكلمش في التليفون فاهم ولا لأ) وهمّ بضرب الرجل، فوقفت أمامه وقلت له (يا عم حرام عليك الراجل بيدور على ابنه حرام عليك)، كنت أرتدي كوفية على رقبتي فأمسك بي منها بقوة وخنقني وقال لي: (عاوزني أوريك الحرام يا ابن.... عاوزني أوريك الحرام)، واستمر بخنقي إلى أن جاء بعض الناس وأفلتوني من يديه النجستين، خرجت من باب المستشفى المقابل للمسجد فوجدت الجثث ملقاة على الأرض في منظر مأساوي، منظر لن يُنسى من ذاكرتي ما حييت، رجال ونساء وأطفال يبحث عنهم ذووهم بقلب محروق، لا يعلمون عنهم شيئاً، ولا يوجد مَن يحملهم قبل أن تلتهمهم النيران، خرجت من الميدان وتحدثت من هاتف مع أمي، كلمتها فإذ بها تنهار في البكاء، (افتكرتك مت يا عمر، كلمت كل الناس اللي أعرفهم في الميدان ومحدش شافك، قلت لهم ما تسيبوش جثته تتحرق هاتوا جثته، الحمد لله على سلامتك)، تذكرت حينها تلك الجثث التي لم تجد من ينقذها من النار، تذكرت كم المفقودين الذين تركوا ذويهم بقلوب محروقة.
أخبرتني أمي بعد أن اطمأنت علي بأن خالي قد أُصيب بطلق في ظهره واستقر بين ضُلوعه وأنه الآن، وأخيراً في مستشفى عين شمس، بعد أن رفضت خمسة مستشفيات فتح أبوابها له وهو بين الحياة والموت بحجة أنه مصاب في رابعة، حتى تلك التي عُولج فيها لم يُدخله إلا بعد أن اضطر خالي الآخر أن يخبرهم كذباً أن الإخوان هم من تسببوا في إصابته، فقبلوا بعلاجه على الفور.
ذهبت إلى شارع مكرم عبيد عند مسجد الإيمان، كان هناك الكثير والكثير ممن ينتظر جثة ابن أو أخ أو قريب أو صديق.
انتهى اعتصام رابعة العدوية ولكننا ما نسينا أبداً.
أضف تعليقك