حلت علينا منذ أيام ذكرى فض اعتصام رابعة العدوية بما تحمله من قصص الآلام والأوجاع والوحشية، وفي ذات الوقت الصمود والثبات والتضحية والفداء، كل هذه المعاني المتناقضة تجمعت على أرض رابعة الطاهرة في مشهد لن ينساه أحد أبد الدهر، اللهم إلا أصحاب العقول والضمائر الصدئة.
في رابعة كان قدر الله لي أن أكون موجوداً يوم الفضّ، أعيش لحظاتها الطويلة كما عاشها الجميع حينها، وأشاهد أحبَّة لي وهم يسقطون بين شهيد وجريح، وما زلت على هذا الحال حتى أصابتني رصاصة غادرة في ظهري من أحد القناصة عند المنصة قبيل الغروب، وظللت أنزف ساعات طويلة حتى أخرجت من الميدان، ولكن الرصاصات كانت تنهال علينا من الكمائن حتى استطعت الوصول إلى مكان آمن وللقصة تفاصيل كثيرة ليس محلها هذا المكان.
ذكرت تلك الواقعة لأن السؤال الذي شغلني كثيراً بعدها، هل كانت المجزرة يمكن اجتنابها، أم أنه لا مهرب منها؟
هل كان من الممكن حقن هذه الدماء أم أن ذلك كان مستحيلاً؟
وفائدة إجابة هذا السؤال هي توثيق الواقعة وملابساتها للتاريخ كما عايشتها، وثانياً حتى تستفيد الأجيال القادمة التي يقع على عاتقها إنجاز الثورة، وثالثاً لتتحدد المسؤوليات ومن ثَم المحاسبة على ما حدث، وخصوصاً أن هناك دماء غزيرة عزيزة سقطت.
لكي نفهم القصة نحتاج إلى أن نقوم بإطلالة سريعة على المشهد حينها والذي يتلخص في هذه العناوين الرئيسية: انقلاب عسكري بقيادة السيسي ودعم كل أجهزة الدولة ومؤسساتها السيادية بلا استثناء، فضلاً عن الدعم الإقليمي والدولي المعلن وغير المعلن، على الجانب الآخر رافضين للانقلاب معتصمين في ميدان رابعة العدوية ومعلنين من على منصة رابعة أن هدفهم هو إسقاط الانقلاب واستعادة الشرعية وتصعيد في سقف المطالب يقضي بإعدام قادة الانقلاب وتطهير مؤسسات الدولة من كل مَن شارك فيه.
أيضا كجزء أساسي من المشهد هناك شريحة كبيرة من المجتمع داعمة للانقلاب العسكري الذي اصطنع مسرحية ثورة 30 يونيو/حزيران لإصباغ المشروعية الشعبية على الانقلاب.
هذه الشريحة تقابلها شريحة أخرى أكبر رافضة للانقلاب وداعمة للشرعية وبين الشريحتين توجد ثالثة صامتة وغير معنية بما يحدث، وهذه تمثل أكبر الشرائح أو ما يطلق عليها إعلامياً "حزب الكنبة".
كانت رسائل قادة الانقلاب العسكري لقيادة الاعتصام المعلنة وغير المعلنة أنه لا عودة لما قبل 3 يوليو/تموز، وأنه لا حدود لفرض ذلك بالقوة وقام قادة الانقلاب وقتها بتوجيه رسالتين قويتين للمعتصمين في مجزرتي المنصة والحرس الجمهوري كان الشهداء بالمئات وبمنتهى الوحشية وأثناء الصلاة وهم عزل، لم تكن هناك رسالة أقوى من ذلك لإيصالها للمعتصمين أنه لا تراجع ولا حدود للبطش أو القتل لتمرير الانقلاب.
على الجانب الآخر، كان قادة اعتصام رابعة حريصين على سلمية الاعتصام، ورغم كونه محاطاً بمنطقة مؤسسات عسكرية، فإنها ظلت آمنة، واقتصرت فعاليات الاعتصام على لونين أساسيين من الفعاليات وهما منصة رابعة واللغة الخطابية العالية بها والتظاهرات التي تخرج من الميدان للاحتجاج على الانقلاب.
و هنا تبرز الإشكالية التي عنونا لها المقال ما الحل أمام قادة الاعتصام للتعامل مع الأزمة وتجنب المجزرة؟ وقد كنت قريباً من مجريات الأحداث أو ملابسات اتخاذ القرار حينها.
كانت الإشكالية التي وقعت فيها قيادة الثورة وهو خطأ استراتيجي قاتل هو سوء تقدير الموقف طيلة حكم الدكتور مرسي هو استبعاد سيناريو الانقلاب العسكري، رغم الرسائل المتعددة التي وصلتهم تحذر من ذلك ومن جهات موثوقة ومحترفة، لكن استمر سوء التقدير حتى وقع الانقلاب، ولست هنا في معرض التفصيل في هذه النقطة، ولكني ذكرتها لأن هذا الخطأ القاتل كان أحد الأسباب الرئيسية في رفع تكلفة الاعتصام بهذا الشكل.
من البديهيات المنطقية أن ميزان القوة بين الدولة والمعتصمين مختل بشكل لا يسمح لحد أدنى من العقل بأن يفترض أن المعتصمين يمكن أن ينتصروا على الدولة بمؤسساتها وقوتها، وبالتالي نكون أمام الخطأ الاستراتيجي القاتل الثاني: هل كان من الحكمة تجميع كتلتك الصلبة كاملة في مكان واحد وغير حيوي وسط محيط ميداني يتحكم فيه النظام الانقلابي كاملاً؟
وهذا سوء تقدير للموقف ثانٍ؛ لأنك عملياً حصرت الثورة في ميدان رابعة حتى لو كانت هناك تظاهرات في عدة محافظات أخرى مهمة إلا أن كتلتك الصلبة كان غالبها في الميدان، أي أنك سهّلت على النظام دون أن تقصد عملية الاحتواء والسيطرة على الكتلة الأهم في الحراك.
حتى هنا، ويمكن أن نختلف أو نتفق حول الجدوى من الاعتصام حينها وفي هذا المكان تحديداً، ربما أكون مخطئاً أو على صواب، ليست هذه هي الإشكالية الأساسية في هذا المقال.
الإشكالية هي أن قادة الاعتصام وبعد إدراك أن النظام لن يعود للوراء خطوة واحدة، وأنه لديه الاستعداد لإبادة المعتصمين في سبيل إنجاح الانقلاب، ودلل على ذلك بمجزرتي المنصة والحرس الجمهوري، وفي ظل الاختلال الهائل في ميزان القوة بل لا يوجد أصلاً قوة لديك لتواجهه، بل تفتخر بأنه لا قوة لديك وتطالب العالم بأن يأتي ويتأكد من أنه لا قوة لديك وبعد كل هذا تصر على الاستمرار في الاعتصام!
وهنا ننتقل إلى الخطأ الاستراتيجي الثالث والقاتل كذلك، وهو غياب الرؤية والاستراتيجية للتعامل مع الأزمة، رغم أنه كانت هناك سيناريوهات متعددة للتعامل معها أنتجها عدد من الباحثين، وكنت واحداً منهم، لكن متخذ القرار لم يجرؤ على تنفيذ أي منها، فلا هو قادر على المواجهة ولا قادر على الانسحاب حتى لا يخذل أنصاره ومؤيديه.
لكن كان هناك طريق ثالث وسط كان يمكن عن طريقه اجتناب المجزرة أو تقليل خسائرها في الأرواح للحد الأدنى، وهو الانسحاب التكتيكي الذي يقيك المواجهة التي لست مستعداً لها أو يظهرك وسط أنصارك بالمتراجع، كان يمكن الإعلان عن نقل الاعتصام لمكان آخر لسحب الناس من الميدان، وبكل تأكيد لن يسمح لك النظام بنقل الاعتصام، وتكون قد أنهيته دون إعلان ذلك، ويتفرق الناس حتى لو استخدم العنف معهم فسيكون بكل تأكيد محدوداً؛ لأن اشتباكات الشوارع لا تسمح له بالسيطرة الكاملة كما في حالة الاعتصام.
كان يمكن كذلك الخروج من الميدان بتظاهرات ضخمة تسحب معظم المعتصمين من الميدان لأماكن مختلفة، وعندما يجد الأمن الميدان شبه فارغ ستتم محاصرته ويمنع المتظاهرين من العودة إليه، وبالتالي تتفرق الجموع وتحقن دماؤها أو تقل خسائرها للحد الأدنى.
هذه الحلول كانت ستحافظ على قوتك وتعيد انتشارها في المحافظات، وتحقن بها كثيراً من الدماء وتعطيك فرصة لاستكمال رؤيتك لمواجهة الانقلاب.
وحتى لو بدأ النظام في اعتقال الناس من البيوت فعندها كان سيفعلها وهو خائف مرتبك لم يستقر بعد، وفي كل الأحوال سيكون الوضع أخف وطأة من المجزرة، كما أن خروج التظاهرات بقوتك الأساسية في المحافظات وصدها لقوات الأمن كان سيجعل الثورة حدث شعبي ينتقل من محافظة إلى محافظة ومن المدينة إلى القرية، وتدخل مصر في حرب استقلال حقيقية ضد الاحتلال العسكري ووكلائه.
و لكي تتأكد من صحة ما أقول أذكركم بأن تظاهرة رمسيس ارتقى فيها نحو ?? شهيداً فقط رغم أن أعداد المتظاهرين كانت تفوق أعداد المعتصمين بالميدان في أيام كثيرة، لكن تعامل القوات مع مجموعات متحركة في الشوارع أصعب بكثير مع كتل بشرية ساكنة في مكان واحد.
سيحاول البعض بوعي أو بدون وعي سحب القارئ من فكرة المقال الأساسية إلى فكرة عاطفية حماسية من أن المقال طعن في الأبطال وأنه ليس وقته، وأنهم غائبون؛ ليُشعل جدلاً سفسطائياً عاطفياً لا تحقن به دماء ولا يحاسب عليه مقصر ولا يسترشد به في المستقبل.
وحتى تعلم كارثة ذلك لأنه لم يجرِ تقييم ومراجعة لما حدث في رابعة بسبب هذه الدعوات تكرر ما حدث بشكل مصغر في رمسيس! لقد خرج مئات الألوف في تظاهرة مليونية ضخمة امتدت لكيلومترات وعندما بدأ الأمن بالتعامل معها بعنف وسقط الشهداء طالبتهم قيادة الثورة بالانسحاب والتراجع، وكأنك فوجئت باستخدامه العنف!
رغم أن مجزرة رابعة لم يكن قد مضى عليها سوى أيام قلائل وأباد فيها النظام المجرمُ البشرَ والحجرَ وأحرق الأحياء والأموات، فلماذا أخرجتهم دون حماية ودون رؤية واضحة وطالبتهم بالتراجع حين بدأ باستخدام العنف ليعتقل المئات يومها وما زالوا معتقلين! ويستشهد العشرات أثناء انسحابهم!
إن النظام المجرم الفاشي الدموي ليس بدعاً في تاريخ الثورات، فكل الثورات عبر التاريخ تقوم على أنظمة مستبدة تقتل الناس وتعذبهم وتعتقلهم، ولكن قدرتك على مواجهته والتصدي لإجرامه وتشتيت وتفتيت قوته وطاقته هو ما يستنفده سريعاً ويعجّل بسقوطه.
إن عوامل الثورة ومسبباتها كلها مجتمعة في الحالة المصرية الآن، وما لم يكن هناك عبرة واستفادة من دروس الماضي وتربية لجيل الشباب الثائر فلن نراوح أماكننا حتى تجري علينا سُنة الاستبدال.
إن كثيرين ممن هم في صدارة المشهد الآن كانوا جزءاً من مشهد رابعة وما تلاه لم يعترفوا بخطأ أو تقصير، بل يظنون أن لديهم الحكمة الكاملة والعقلية الفذة، ولأن الحساب غائب وصلت الثورة إلى ما آلت إليه من توقف أقرب إلى الموت، فلو جلست مع نفسك في لحظة صدق تعدد ما تم إنجازه فعلياً على الأرض لم تجد منجزاً واحداً ملموساً، اللهم إلا قصص الثبات والبطولة للثوار في مصر وللمعتقلين وأسرهم، وهذا الثبات محض توفيق من الله وليس منّة من أحد عليهم، أما بمقاييس الواقع فلا منجز حقيقي تم لصالح الثورة بل تراجع في كل الملفات.
إنني أعتمد بعد الله على شباب الثورة الذين دفعوا ثمناً غالياً، وتعلموا دروساً في بضع سنين ما استغرق بعضهم أعمارهم كلها ليتعلموا بعضاً منها، فهؤلاء إذن مَن ينصلح بهم الحاضر والمستقبل بنقائهم وإخلاصهم وحماسهم وهمّتهم العالية وحسن إدراكهم وتخطيطهم لواقعهم ومستقبلهم.
أضف تعليقك