قرارات التحفظ على الأموال وشركات القطاع الخاص الأخيرة في مصر تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه السلطة لن تبقي على أي استثمارات خاصة، لسبب بسيط وهو أن هذه الاستثمارات الخاصة تمثل قوة مجتمعية لا تريد هذه السلطة بقاءها، في ظل خطة ممنهجة لعسكرة الاقتصاد المصري ووضع جميع مفاصله تحت ملكية وتصرف جهات عسكرية تتقاسم النفوذ عليه وفقا لمعادلات معقدة لا يعرف الشعب عنها شيئا.
الرسالة الفعلية لهذه القرارات هي أن يتحرك كل مستثمر أو صاحب شركة لينجو بنفسه واستثماراته من هذه المصادرات التي لن تتوقف، والرسالة أن من لم ينقذ نفسه وأمواله سريعا بسحب هذه الاستثمارات إن كان أجنبيا أو تهريبها خارج الحدود إن كان مصريا فلا يلومن إلا نفسه حال مصادرتها أو فرض الحراسة عليها.
حتى في خبرة الانقلابات العسكرية هناك مستويات ومراتب، فانقلاب يوليو 1952 لم يكن ببشاعة ووضاعة انقلاب يولو 2013، في الأول جرت عمليات تأميم واسعة وفقا لقرارات رسمية عكست انحيازا اجتماعيا للفئات الفقيرة والمهمشة حتى وإن صاحب التنفيذ أخطاء بل خطايا، أما في الانقلاب الأخير فإن المصادرات التي تمت لا علاقة لها بفلسفة سياسية أو انحياز اجتماعي لصالح الفقراء بل هي محض انتقام من خصوم سياسيين، ومحض انحياز لفئة مهيمنة تريد تجريد الشعب وطبقته الوسطى من مصدر نفوذ تستشعر تلك الفئة المهينة خطره عليها، وتريد اغتنام هذه الثروات المصادرة تحت مسميات التحفظ أو الحراسة، لإخلاء ساحات عمل تلك الشركات المستهدفة لشركات جديدة تنشئها تلك الطغمة العسكرية وتتولى هي إدارتها والاستفادة بعائداتها.
في انقلاب يوليو 1952 (ومع رفضي الكامل له ولأي انقلاب عسكري) سعى قادة ذلك الانقلاب لكسب غطاء شعبي لهم، فكان انحيازهم واضحا للطبقات الفقيرة، ولم تكد تمضي سوى بضعة أسابيع على انقلابهم حتى أصدروا قوانين الإصلاح الزراعي في التاسع من سبتمبر/أيلول 1952، وبموجبها حددوا سقف الملكية بمائتي فدان،تم النزول بها لاحقا إلى 50 فدانا فقط وتوزيع الباقي على الفلاحين، كما أصدروا في يناير/كانون الثاني 1957 قرارات تمصير البنوك وشركات التأمين والوكالات التجارية الأجنبية بهدف القضاء على الامتيازات التي حصلت عليها تلك القطاعات من المستعمر الإنجليزي على حساب الاستثمار الوطني، كما أصدروا ما يسمى بقوانين يوليو الاشتراكية في 23 يوليو/تموز 1961 والتي تضمنت امتيازات للعمال، وضرائب تصاعدية على الدخول الكبيرة، وتغليب القطاع العام في المجال الاقتصادي، وهي قرارات لاقت رضا شعبيا بشكل عام رغم ما صاحبها من مظالم للبعض، ووفرت غطاء شعبيا لانقلاب الضباط وقتها، (طبعا لا يمكننا نسيان قرارات ظالمة يفرض الحراسات على بعض الشركات والعقارات التي يمتلكها مصريون معارضون لحكم الضباط وقتها)
أما في انقلاب السيسي وعصابته فقد ظهر انحيازهم الاجتماعي للطبقات الفاسدة منذ البداية، رغم أنه حاول إيهام البسطاء أنه جاء ليحنو عليهم فإذ بهم يلهب ظهورهم، بل يكسرها، بأدواته القمعية وبقراراته الاقتصادية التي رفعت الأسعار بصورة جنونية، ثم جاءات قرارات التحفظ التي تركزت على أموال المعارضين السياسيين في العامين الأولين للانقلاب، والتي شملت 534 شركة ومصنعا، و 66 شركة صرافة بفروعها،.كما تم التحفظ على أموال ومنقولات 1345 شخصا ينتمون إلى جماعة الإخوان، والتحفظ على 203 مدراس، و50 مستشفى، وخلال العامين الأخيرين تجاوزت حملة التحفظ والمصادرة حدود المعارضين السياسيين وخاصة الإخوان إلى شخصيات ومؤسسات وشركات لم يعرف عنها أو عن أصحابها المعارضة بل لم يعرف عنهم تعاطي الشأن السياسي بالأساس، كما حدث خلال الأيام الماضية إذ شملت القرارات الجديدة شركة دلتا أر أس للتجارة "راديو شاك" وفروعها ، وشركة كمبيوتر شوب للتوزيع وفروعها ، وشركة موبايل شوب للتوكيلات التجارية وفروعها ، وشركة كمبيومى مصر لتكنولوجيا المعلومات وفروعها، وشركة دى ستربيوشن للتجارة وفروعها ، وشركة دلتك للتجارة وفروعها، وشركة دلتا للاتصالات والتجارة وفروعها، وشركة دلتا لإدارة العقارات والأصول وفروعها، وشركة دلتا كول سنتر وفروعها، وشركة دلتا كميونكيشن للتجارة وفورعها،وشركة دلتا سوفت وبر وفروعها، وشركة دلتا إكس بو للتجارة وفروعها، وشركة إنفينتى للاتصالات وفروعها، وشركة أوفر سيز كمبيوتر وفورعها، والشركة الأمريكية للاستثمار السياحى "بكرى ماريوت" وفروعها، وشركة بيت الحكمة للاستشارات وفورعها، وشركة خدمات التكنولوجيا الحديثة وفروعها، وشركة إنترناشيونال دلتا جروب للتجارة وفروعها ، إضافة إلى موقع مصر العربية الإلكتروني.
ورغم ضخامة الاستثمارات في هذه الشركات والمدارس والمستشفيات (الجديدة والقديمة) إلا أن أحدا لا يعرف أين تذهب عوائدها، وليس هناك تقرير واحد للجهاز المركزي للمحاسبات بمراجعة حساباتها بعد أن أصبحت في حكم المال العام، وبالتالي فلنا أن نستنتج أن تلك الأموال تذهب إلى بطون من فرضوا عليها التحفظ والحراسة، ولم ولن تعود على الشعب أي فائدة من ذلك، بل الأصح أن الشعب حرم من خدمات تلك المستشفيات والمدارس وحتى الشركات.
في الدول الديمقراطية تقدم سلطاتها حوافز للاستثمار المحلي والأجنبي، ولكن الأهم من الحوافز التي تقدمها السلطات في شكل إعفاءات ضريبية أو جمركية .. إلخ، هو المناخ السياسي والأمني والقانوني الذي يضمن الشفافية والنزاهة وحصول كل صاحب حق على حقه، والذي يمنع المصادرة والتحفظ والملاحقة للمستثمرين، ويحيطهم بمشاعر الأمان على حياتهم وأمنهم واستثماراتهم، ومن الواضح تماما أن المناخ في مصر لا يشجع أي مستثمر محلي أو أجنبي على ضخ أي أموال في مصر، بل إنه يدفعهم دفعا للهرب سريعا بما تبقى من أموال واستثمارات إلى بلاد الله الواسعة والآمنة والأكثر ربحا.
أضف تعليقك