يا لها من مصادفة عجيبة أن يعبر السيسي عن إعجابه بإعلام عبد الناصر يوم إطلاق أكبر فنكوش في عهده وهو تفريعة قناة السويس الجديدة ( 5 أغسطس 2014)، في كلمته خلال الإحتفال قال السيسي "الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كان محظوظ، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه"، لخصت هذه الجملة رؤية السيسي للإعلام، فهو يريد أن يكون الإعلام معه في كل ما يقول ويقرر، في كل "وهم "يريد تسويقه للشعب المصري، في كل مصيبة تجرها سياساته ويريد قلبها إلى إنجاز!!.
إعلام عبد الناصر الذي تغنى به السيسي وتمناه كان يفعل ذلك، فبينما كانت طائرات الجيش المصري تدمَّر في حظائرها كان الإعلام يدعي أننا أسقطنا عشرات، بل مئات الطائرات للعدو الصهيوني، وحين كانت قوات الصهاينة تتقدم داخل سيناء وتعبر قناة السويس إلى بورسعيد والإسماعيلية كان الإعلام يقول إن قواتنا تقترب من تل أبيب، وأفاق الشعب بعد كل ذلك على هزيمة مروعة تدخل الإعلام ليصفها بأنها مجرد نكسة عابرة!!.
رؤية السيسي للإعلام لم تتوقف عند حدود الأمنيات بل تم ترجمتها إلى خطة عمل، بدأ رجاله في تنفيذها على الفور، لم يقنع السيسي بالزفة الإعلامية لمشروعه الوهمي الذي وصف تلك التفريعة بأنها قناة السويس الجديدة التي ستضاعف عائدات مصر من مرور السفن العملاقة التي لم تكن تستطيع أن تبحر في القناة القديمة، رغم أن التفريعة الجديدة تصغر عن تفريعات سابقة حفرت قبله، ولم يقنع بأن هذا الإعلام دافع عن "جهاز الكفتة" لعلاج الفيروسات، ولم يقنع بتسويق عشرات الأوهام"الفناكيش" الأخرى، وظل يضمر نوايا شريرة تجاه الإعلام، ورغبة جارفة في إعادة هيكلته بحيث يصبح جميعه تحت هيمنة عسكرية بصورة كاملة سواء المملوك للدولة أو للقطاع الخاص، لم تكن هناك مشكلة في إعلام الدولة ممثلا في قنوات ماسبيرو والصحف والمؤسسات القومية، وكانت المشكلة في الإعلام الخاص، فرغم أن هذا الإعلام الخاص في معظمه كان داعما للسيسي وانقلابه بل هو من حشد لهذا الإنقلاب، وهو من دعمه بعد وقوع الإنقلاب، إلا ان هذا السبب أيضا اصبح مقلقا للسيسي لأنه يدرك مشاعر القائمين على هذا الإعلام من ملاك وإعلاميين، وقناعتهم بأنهم أصحاب فضل عليه، وأنهم كما أتوا به من خلال حشدهم الإعلامي فإنهم يمكن أن يطيحوا به أيضا إذا توفرت العناصر الأخرى، وقد كانت الانتخابات الرئاسية كاشفة لهذه النوايا حين حرص هذا الإعلام على إظهار خواء اللجان في اليومين الأولين مما أجبر رجال السيسي على مد التصويت يوما ثالثا، ومنذ تلك اللحظة الفارقة قرر السيسي الإسراع في خطته للعسكرة، عبر نقل ملكية الإعلام الخاص إلى قبضة رجاله مباشرة، فبدأت عمليات البيع والشراء التي أصبح الكثير منها يتم مع شركات وهمية يديرها ضباط مخابرات عامة أو حربية، وقليل منها يديرها رجال أعمال معروفون مثل أحمد أبو هشيمة أصبحوا الآن مجرد واجهات لتلك الجهات الأمنية.
جرت العديد من عمليات نقل الملكية خلال الفترة الماضية ومعظمها تم بضغوط أمنية على أصحاب قنوات وصحف، أجبرتهم في النهاية على الاستسلام، والتخلص من صحفهم أو قنواتهم اتقاء لشرور اكبر، كما حدث مع رجل الأعمال نجيب ساويرس الذي أجبر على بيع قناة أون تي في ، وما جرى مؤخرا مع رجل الأعمال السيد البدوي رئيس حزب الوفد الذي اضطر لبيع مجموعة قنوات الحياة، ولن يكون مفاجئا في أي لحظة ان نسمع أخبارا عن بيع رجل الأعمال صلاح دياب لصحيفة المصري اليوم، بعد الحملة الشاملة لأجهزة الدولة ضد مشروعاته التجارية، وتحرير عشرات المخالفات التي تفضي إلى إغلاقها، ورغم أن الرجل لا يزال "يفلفص" حتى الآن، إلا أنه لن يستطيع أن يستمر للنهاية، فهذه سلطة غاشمة قادرة على كسر ظهره، وقد سبق لها أن داهمت مسكنه من قبل واقتادته مكبلا بالحديد، وحرصت على نشر صورته مكبلا ليكون عبرة ومثلا لغيره، وهي قادرة أن تقتاده مجددا إلى سجن العقرب، وتعامله "كما لو كان إخوانيا"، وهو ما لا يحتمله الرجل فيضطر إلى ترك الصحيفة بكل أصولها دون مقابل لهم.
لم ولن تتوقف عسكرة الإعلام المصري عند حدود السيطرة الإدارية والمالية على المؤسسات الإعلامية الخاصة، بل هي امتدت فعلا، وستتوسع أيضا في إخفاء كل الرموز الإعلامية التي ساهمت في صنع السيسي من قبل، والتي تشعر بفضلها عليه، حتى وإن لم تعبر عن ذلك صراحة، وقد تم التخلص بطرق متنوعة من العديد من الوجوه البارزة ( بعضهم بشكل كامل) مثل محمود سعد ، وباسم يوسف، وعمرو الليثي، وليليان داوود، ويسري فودة، وريم ماجد، ودينا عبد الرحمن، وإبراهيم عيسى، وبعضهم بتحويله إلى إعلام ترفيهي مثل منى الشائلي، وسيلحقها وائل الإبراشي وربما لميس الحديدي وحتى زوجها عمرو أديب.
وعلى مستوى الصحافة التقليدية والإلكترونية تم التخلص مبكرا من بعض الصحف المعارضة الحقيقية مثل جريدة الشعب الجديد والحرية والعدالة، ثم كانت الموجة الجديدة الكبرى وهي حجب 140 موقعا، بعضها مواقع كبرى وذات تأثير، ولديها تراخيص قانونية داخل مصر مثل مصر العربية( التي تم فرض التحفظ على أصولها) والبداية والبديل، وبوابة يناير، والمصريون، وغيرها.
كل هذه الإجراءات لعسكرة الإعلام بحيث يعود إلى زمن إعلام الستينات، حيث المانشيتات الموحدة، والرواية الواحدة، وغياب التنوع في الآراء، لا ينسينا جانبا مهما من الماساة ، وهي حبس حوالي مائة صحفي وإعلامي، والتنكيل بالكثيرين منهم داخل السجن وحرمانهم من ابسط حقوق الحياة التي توفرها لوائح السجون، ومن ذلك ما يحدث للصحفي هشام جعفر، وشوكان، ومجدي حسين، وبدر محمد، وأحمد زهران، وخالد سحلوب ومحمود حسين الخ، وبلغ الفجور ذروته بإعادة اعتقال الكاتب الصحفي هاني صلاح الدين مدير تحرير اليوم السابع الذي قضى قرابة 4 سنوات في السجن ظلما قبل أن تبرئه المحكمة من التهم المنسوبة إليه، وبدلا من تعويضه عن تلك السنوات التي كاد يفقد فيها حياته نتيجة الإهمال الطبي أعادت السلطات الأمنية اعتقاله بناء على وشاية مغرضه من أحد أذرع العسكر، والذي اتهمه بأنه حرض زملاء آخرين على التظاهر ضد فصلهم من جريدة اليوم السابع، وهو ما نفته نقابة الصحفيين في بيان رسمي لها، ومع ذلك جاملت النيابة ذلك الذراع بحبس هاني 15 يوما احتياطيا.
ما حدث من عسكرة للإعلام المصري هو نتيجة طبيعية لقبول غالبية الصحفيين والإعلاميين الإنقلاب العسكري وتطبيلهم له، وتبريرهم لجرائمه بحق الشعب وبحق كل دعاة الحرية وفي مقدمتهم زملاؤهم الصحفيين الأحرار، وإذا كان النظام قد نجح حتى الآن في السيطرة على ملكية بعض وسائل الإعلام الخاصة، وطرد بعض الإعلاميين " المزعجين" له، وحبس العشرات غيرهم، وإنشاء قنوات ومواقع جديدة مع غلق عشرات المواقع المستقلة، وفرض رجاله على نقابة الصحفيين والمجالس الإعلامية الجديدة، فإن الواجب يحتم على كل صحفي وإعلامي حر أن يتحرك لإنقاذ مهنته، بل إنقاذ نفسه، ومعها وطنه، فالمزيد من الصمت والرضا يشجع النظام على المزيد من القمع والسيطرة.
أضف تعليقك