منذ ثانية واحدة
الأسوار حول المدن أصبحت من التاريخ، ولكن في مصر بلد العجائب عادت هذه الظاهرة وكأننا نعود إلى القرون الوسطى؛ ففي سلوك مريب بدأ تشييد أكبر سور خرساني كثيف التسليح، بارتفاع يصل إلى 7 أمتار حول العاصمة الإدارية الجديدة، التي تبلغ مساحتها 170 ألف فدان، يذكرنا بالقلاع العسكرية العتيقة، رغم أنهم يقولون إنها مدينة عصرية على أحدث طراز!
أول ما شرعوا في تنفيذه المطار والفندق والسور؛ فهل هي مصادفة أن مشروع العاصمة الإدارية يشبه بناء المستوطنات الإسرائيلية؟ وهذا السور ليس كأي سور، فهو أقوي وأعلى من الجدار العازل الذي بناه الإسرائيليون في فلسطين المحتلة، وهو أكثر قوة من جدران الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
بالتأكيد لم تبن أسوار العاصمة الإدارية للحماية من هجوم خارجي، كما أن التحصين ليس خوفا من الكيان الصهيوني الذي يمتلك أسلحة الجو المتقدمة وترسانة الصواريخ المتطورة، فالخطر الذي يراه من يقفون خلف العاصمة الجديدة يأتي من الشعب الذي يتضور جوعا بسبب السياسات الاقتصادية التي زادت من مساحة الفقر.
الأسوار دليل على الخوف، ترمز لعقلية قلقة تشعر بالخطر، تبحث عن الأمن خلف الجدران العالية، والهروب من خطر زاحف على الأرض وليس من هجوم جوي من جيش نظامي، وهذا الخوف مصدره بركان الغضب الشعبي المحتمل انفجاره مع استمرار الإدارة الفاشلة على كل المستويات.
أسوار العصور الوسطى
ظاهرة تشييد الأسوار حول القلاع العسكرية والمدن مرتبطة بالقرون الوسطى، حيث كانت الجدران العالية تمثل حماية من الغزاة، وتقف حاجزا أمام جيوش الأعداء، وكانت الأسوار عامل ردع في حروب الخيل والسيوف والسهام، ولذلك كل المدن القديمة في بلاد المسلمين وغيرهم محاطة بالأسوار.
من أشهر الأسوار الحصينة أسوار القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية التي عجز المسلمون عن تخطيها أكثر من مرة، إلا في عهد محمد الفاتح الذي تغلب عليها عندما صنع أكبر مدفع في العالم في ذلك الوقت، واستطاع أن يدمر أسوار المدينة ويفتحها ويضمها إلى أراضي الدولة العثمانية.
وبعد ظهور المدافع والبارود لم تعد الأسوار بذات الأهمية العسكرية التي كانت في السابق، وانتهت أهميتها الإستراتيجية مع ظهور الطائرات المقاتلة والصواريخ، وأصبحت جزءاً من التاريخ، ويتم حاليا التنقيب عنها وترميمها كآثار وتراث حضاري ليزورها السياح.
عندما يكون الشعب هو العدو!
الغرض من تشييد هذه الأسوار هو حماية رموز الحكم والنخبة المترفة والأجانب خلف جدران العاصمة من أي انتفاضة شعبية قادمة؛ فاختيار المكان في وسط الصحراء الشرقية، الذي يبعد عن القاهرة بمسافة 60 كم يجعل فرصة وصول المظاهرات إلى هذه القلعة المسورة مغامرة مستحيلة في هذه الصحراء المكشوفة.
نحن أمام تخطيط ماكر لتأسيس عاصمة معزولة، بها طبقة دخيلة لا تنتمي لنسيج المجتمع المصري، ويفضح الانتقاء السكاني عملية العزل العنصري التي تجري، فالتركيز على الأثرياء فقط وبمواصفات خاصة، واستقدام الأجانب بمن فيهم الإسرائيليين، يؤكد صناعة كيان عنصري له طبيعة خاصة، فالطرح الأول لفيلات تتراوح بين 3 و9 ملايين جنيه، وأقل شقة لا يقل سعرها عن المليون جنيه!
تركز حملة الدعاية للعاصمة الإدارية على نوع خاص من البشر الذين يشعرون بالخوف من العيش وسط الشعب المصري، فهي "مدينه مراقبة بأحدث وسائل المراقبة وأحدث الكاميرات منذ الخروج من بيتك إلى أن تعود إليه، فأنت ظاهر علي الشاشات" ، ويستقطبون النخبة المترفة التي تبحث عن اللهو فالعاصمة تشهد "حفلات غنائية راقصة علي مدار اليوم" ولطمأنة النخبة الجديدة أكثر فالمدينة بها "أحدث منظومة للأمن الوطني" أي يتم انتقاء السكان وفقا للمواصفات التي ترضي الإسرائيليين الذين سيقطنون المدينة تنفيذا لأحلامهم المتعلقة بـإسرائيل الكبرى، وستكون لها بوابة، حتى لا يدخلها المواطن المصري إلا بتأشيرة وموافقات مسبقة!
وتكشف الدعاية أنها مشروع عنصري يخدم الطبقة المختارة يشبه المنطقة الخضراء في العراق، وسيكون لهم قانونهم الخاص، فوق القانون المصري، لأنهم طبقة فوق شعب مصر، ولا سلطة فوق سلطتهم؛ وفي لفتة رمزية كاشفة لهذا الوضع الجديد ما حدث مع رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، المحكوم عليه بالسجن في قضية قتل، الذي تم إخراجه من السجن بعفو رئاسي لمجرد أنه اشترى أرضا في العاصمة الإدارية!
الهروب الكبير وسرقة ذهب المصريين
سياسة الحكومة تشير إلى أن عملية هروب كبير يتم الإعداد لها، وهذا الهروب يشبه خروج بني إسرائيل من مصر وسرقة ذهب المصريين؛ فالسلطة الحالية تبيع كل شيء للأجانب، وتصفي ممتلكات الدولة، وتستغل قرار الانتقال للعاصمة الجديدة كمبرر وغطاء لبيع مقار الوزارات وممتلكات الحكومة والهيئات العامة وإنهاء وجود الحكم المصري في قلب القاهرة.
كل ما يرمز للدولة المصرية في وسط القاهرة سيباع، مثل مجمع التحرير الذي تم إخلاؤه، ومقر البرلمان ومبنى ماسبيرو، حتى المتاحف والمناطق الأثرية سيتم تأجيرها للمستثمرين الأجانب، وما تبقى من المرافق العامة مثل الكهرباء والمياه والنقل والسكك الحديدية يجري التهيئة للتخلص منها وتسليمها للشركات الأجنبية، ولكي تكون مربحة للملاك الجدد يتم التسريع بعملية إلغاء الدعم الحكومي عنها بشكل كامل.
قد يتساءل البعض: هل ستنتقل الحكومة فعلا إلى العاصمة الإدارية؟ بالتأكيد هذا لن يحدث، فالحكومة سيتم تفكيكها قبل الانتقال، فلا مكان للحكومة بشكلها الحالي هناك، حيث سيصاحب تصفية ممتلكات الحكومة في القاهرة تصفية العاملين والموظفين الحكوميين - وقد تناولت ذلك في المقال السابق- ولن يذهب إلى العاصمة الإدارية سوى قلة قليلة من الذين تنطبق عليهم الشروط، وليس من بين الشروط الكفاءة أو الوطنية أو حتى حب مصر، إنما اعتناق العقيدة الجديدة وهي حب الإسرائيليين.
التفكيك والتقسيم
بمجرد تصفية الحكومة في وسط القاهرة وطردها إلى الصحراء ستبدأ المرحلة التالية للتفكيك تحت شعار "اللامركزية"، ففي الواقع لن تكون هناك حكومة مركزية بعد تجريدها من مقدراتها وممتلكاتها، وسيترك لكل إقليم تدبير شئونه، وهذا التشظي لن يتركوه للفوضى وإنما لفتح الباب أمام رجال الأعمال المرتبطين بالخارج ووكلاء المستثمرين للمشاركة في إدارة المحافظات والمدن.
التصور الصهيوني للحكومة المصرية أن تقتصر على وزارتي الخارجية والدفاع (وفق مقاييس ومهام محددة) وأن يتم تسليم باقي مهام الحكومة للشركات الأجنبية، وخصخصة كل شيء حتى الأمن؛ فالاستثمارات الأجنبية والشركات عابرة القوميات الأمريكية والأوربية لا تشعر بالأمان مع قوات الأمن النظامية المحلية، وتعتمد على شركات المرتزقة مثل بلاك ووتر وأخواتها وبناتها.
وليس في التصورات دور لوزارة الداخلية غير مكافحة الشغب وقمع الاحتجاجات، ومطاردة المتهمين بالإرهاب (إسلاميين ويساريين) الذين يرفضون هيمنة الشركات الأجنبية على مصر.
وفي ظل هذه السيطرة الأجنبية لن يكون أمام الشباب المصري أي وظائف غير العمل في شركات المرتزقة التي ستجند جيوشا للعمل في المشروعات التي تمت سرقتها من أموال الشعب، وسنكون أمام وضع يشبه ما فعله بريمر في العراق بعد إسقاط الرئيس صدام حسين وحل الجيش العراقي، حيث لم يكن أمام العراقيين أي فرصة للعمل غير شركات الأمن الخاصة التي يقودها عراقيون شيعة بإشراف ضباط المارينز المتقاعدين.
تأتي أهمية العاصمة الإدارية كهدف استراتيجي صهيوني للتحكم في المنطقة الشرقية لمصر ومنع التمدد الشعبي إليها، وأيضا كملجأ سريع في ظل الانهيار الاقتصادي والضغط الشعبي، لتكون هي المستوطنة التي تؤمن بين جدرانها الإدارة الأجنبية وبقايا الحكومة المصرية، ولهذا فإن العاصمة الجديدة محرمة على المصريين
ولا يعني الهروب للعاصمة الإدارية تنازل الدوائر الصهيونية عن إخلاء وسط القاهرة حسب الخطط الموضوعة، ولا التراجع عن الاستيلاء على جزيرة الوراق وطرد سكانها؛ فكل هذه المشروعات مرتبطة بالتصور الصهيوني الذي يخطط للسيطرة على الجغرافيا وتحريك السكان بعيدا عنها.
***
يبدو أن مصر تندفع بسرعة نحو حافة منحدر؛ فكل المشروعات التي يزعمون أنها إنجازات إنما هي كوارث تأكل الأخضر واليابس، وتبدد الأرصدة والثروة في وقت اقتراب المجاعة؛ فمصر لا تحتمل إنفاق تريليونات معظمها بالاقتراض في عاصمة جديدة ليست للشعب المصري، والأهم أن ما يجري في صحراء العين السخنة حسب التصورات المعلنة سيؤدي إلى انفصال شرق مصر، وسيمثل خطرا استراتيجيا على مستقبل الدولة المصرية سواء استمر العمل في المشروع أم تعثر وتوقف.
أضف تعليقك