شرع الله -عز وجل- الحج ركنًا من أركان الدين، ونسكًا من نسكه العظمى، وشعيرة من أهم شعائره؛ لما له من فضل فى توحيد الأمة، وجمعها على الهدى والرشاد، وإيقاظ عاطفتها التى يحاول الكفر والشرك والنفاق إماتتها، ويأبى الله أن تموت، بل هو الضامن -سبحانه- لأن يتم نوره ولو كره المجرمون..
فى كل عام؛ فى زمن بعينه، ومكان بعينه، وشعائر بعينها يجتمع ملايين الحجيج، يكبرون، ويلبون، ويهللون، ويطوفون، ويسعون، ويدعون ليطلعوا الدنيا على عظمة هذا الدين، وكرامة أبنائه، ووحدة المنضوين تحت لوائه؛ على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم، وألا دين يُبتغى عند الله غير هذا الدين، الذى وحد الناس، وألف بينهم، وعصم دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ودعاهم إلى نبذ الكفر، ومساوئ الأخلاق، وحضهم على الخير والبر والفضيلة.
ولولا ساسة فسقة أفسدوا تلك الفريضة الكبرى لكان لحج المسلمين شأن آخر. ولو قُيض لهذه الجموع سلطان أو سلاطين هدى لغزوا بهم الدنيا، ولنشروا الإيمان على العالمين؛ إذ لا يجتمع -لأمر دينى- هذا العدد من البشر إلا فى حج المسلمين؛ ربهم واحد، وقبلتهم واحدة، ورايتهم واحدة، وكتابهم واحد، وعاطفتهم مشبوبة لا تحتاج سوى من يرشدها ويوجهها إلى مناحى العمل الصالح - كما كان يفعل آباؤنا من السلف الكريم..
يأمر الله تعالى بهذه الفريضة؛ لفضلها وأهميتها لإبقاء هذا الدين سراجًا منيرًا محفوظًا فى قلوب وعقول البشرية، يقول سبحانه: (وأتموا الحج والعمرة لله) [البقرة: 196]، ويعرض النبى الخاتم جزاء من يؤديها، يقول: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [متفق عليه]؛ فما يعظمها إلا تقى، نقى القلب محب لله ولرسوله، وما يلتزم شروطها وواجباتها ويجتنب محظوراتها إلا من وقر الإيمان فى قلبه، وكُرِّه إليه الكفر والفسوق والعصيان..
ولا نهضة للمسلمين إلا باستثمار هذا المؤتمر الجامع، والسير على طريق السلف فى هذا الأمر؛ فإن ما جمع هذه الأعداد على الحج والتلبية؛ يجمعها على الجهاد، والإنفاق، وصلة أرحام المسلمين، وخدمة الناس أجمعين، وإنقاذ البشرية التى ذهبت إلى التيه وغرتها الأمانى فلم يعد بينها وبين البهيمية فرق كبير. وإن اجتماع هؤلاء بهذه الصورة التى تنم عن وحدة القلوب وتلاحم المشاعر ثم انفضاضها دون إنجاز؛ لهو من العبث والإثم الذى يؤاخذ عليه العلماء والحكام؛ ففى زمن ذل فيه المسلمون، وضاعوا، وتاهوا وجب أن يصدع العلماء بالحق، وأن ينبهوا إلى فضل هذه الأعداد فى إحداث تغيير جوهرى داخل شعوبها، ينفض عنها ما غبَّر وجهها وأصاب جسدها من ظلم وفقر ومرض وانتكاسات على المستويات كافة، وما وقع فيها من انقسامات ومشاحنات ومحن وإحن؛ جراء حب الدنيا وكراهية الموت. ليسأل كل واحد منهم سؤالاً: ماذا تغير فى الحاج الذى خرج من بلده ثم عاد إليه؟، وما الذى وعاه من أهداف الفريضة؟ فإذا لم تكن الإجابة بالإيجاب فلا قيمة لتلك الأعداد الكثيفة؛ فكأنها (مولد) سنوى كالتى تقام لأولياء الله وتنفض فلا تخرج عن كونها (سوقًا) لما أحل وحرِّم.
لما أطلق الله عز وجل هذا الشعار فى كتابه الكريم: (إنما المؤمنون إخوة) [الحجرات:10]؛ أراد -سبحانه- أن يكون هذا الشعار عمليًا، بما تحمله لفظة (إخوة) من دلالات ومآلات. ولما قال النبى صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم» [مسلم]، أراد كذلك أن يوطن فى نفوس المسلمين عظمة الوشيجة التى تربطهم؛ والحج من المفترض أن يكون أوضح صور هذه الأخوة، ولو تخيلنا معانى هذه الأخوة وقد طبقت -فعليًا- بين هذه الملايين من المسلمين كل عام؟!.. والله لن يبقى بعدها حد من حدود السياسة التى مزقت دولنا، ولن يبقى فى عالم المسلمين فقير واحد، ولن يبقى فاسد واحد، ولن يبقى مجرم من مجرمى السياسة الذين تسلطوا على المسلمين وأفقروهم وأضاعوهم.
أضف تعليقك