كان الشهيد سيد قطب (1324- 1386 هـ، 1906- 1966م) صاحب عبقرية تجلت منذ سنوات طلبه للعلم في "دار العلوم".
ألقى محاضرة عام 1932 -وهو طالب في الكلية- عن "مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر"، كشفت عن أستاذية في النقد العربي، وقدمه للمحاضرة أستاذه العلامة مهدي علام "1318- 1413هـ، 1900- 19921م).
وبعد المحاضرة عقب، فقال: "لئن كنت قد قدمت المحاضر سيد قطب بأنه طالب، يسرني أن يكون أحد تلاميذي، فإني أقول اليوم -وقد سمعت محاضرته- إنه لو لم يكن لي تلميذ سواه، لكفاني ذلك سرورا وقناعة واطمئنانا إلى أنني سأُحمل أمانة العلم والأدب من لا أشك أبدا في حسن قيامه عليها".
وأشاد مهدي علام بالجرأة الرشيدة التي دعت سيد قطب إلى الاستقلال بالرأي في بحثه -حتى ولو خالفنا في بعض ما نعتقده من الآراء الأدبية- وهي جرأة تجعله أحب إلى قلوبنا.
إن سيد قطب باحث ناشئ، تعجبني عصبيته البصيرة، وإشادته بذكر الشعراء الناشئين من أمثاله، وهو جد موفق في اختياره لهم، وليس أقل توفيقا في اختياره من شعر نفسه، وإن ستره تواضعه وراء ستار لـ"شاعر ناشئ"، إنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر "دار العلوم". وإذا قلت "دار العلوم" فقد عنيت دار الحكمة والأدب".
هكذا كانت بداية تجليات عبقرية سيد قطب الأدبية والنقدية في "دار الحكمة والأدب" على حد تعبير العلامة مهدي علام، وهكذا تجلت "عصبيته البصيرة" كما وصفها أستاذه الكبير.
وتتلمذ سيد قطب على الأستاذ عباس محمود العقاد (1306- 1384هـ، 1889- 1964م) بعد فترة عابرة من الإعجاب بالدكتور طه حسين (1307- 1393هـ، 1889- 1973م)، ثم استقل برأيه وفكره عن أستاذه العقاد، نازعا إلى الاغتراف من المنابع لا من الأستاذ الوسيط.
واشتهر سيد قطب باكتشافه العبقرية الأدبية لنجيب محفوظ (1329- 1427هـ، 1911- 2006م)، وتقديمه لجمهور الحياة الأدبية.
وكان له فضل السبق في اكتشاف الموهبة الاجتماعية والاقتصادية للشيخ محمد الغزالي (1335- 1426هـ، 1917- 1996م) عندما أشاد بأول كتبه: "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" عام 1947م.
فكتب عن هذا الكتاب أكثر من صفحة في جريدة "الجمهور المصري"، وقال عنه: "إنه قد قال الكلمة الأخيرة في الجانب الاقتصادي، وإنه يشبه كتاب عبد الرحمن عزام باشا (1311- 1396هـ، 1893- 1976م) "الرسالة الخالدة" عن الإسلام".
وأبدى عجبه وإعجابه من أن يكتب شيخ أزهري -كالشيخ الغزالي- مثل هذا الكتاب المعبر عن فلسفة الإسلام في الثروات والأموال، وهي المشلكة التي حار فيها العالم، واختلفت فيها الفلسفات الاجتماعية على مر التاريخ.
وقال الشيخ الغزالي -في محاوراته- عن موقف سيد قطب هذا: "لم أجد من كتب عني بحفاوة وقدمني للقراء بإخلاص إلا الأستاذ سيد قطب رحمه الله".
ولقد ذهب الشيخ الغزالي لزيارة سيد قطب -شاكرا- وتوثقت العلاقات بين الرجلين منذ ذلك التاريخ، حتى أن الشيخ الغزالي عرض على سيد قطب عام 1950م الانضمام إلى الإخوان المسلمين، وفي ذلك يقول الشيخ الغزالي في محاوراته: "وفي عام 1950م تقريبا، كنت صديقا للأستاذ الكبير سيد قطب رحمه الله، عرضت عليه أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، فقال لي: الأفضل أن أكون بعيدا".
هكذا تجلت عبقرية سيد قطب منذ وقت مبكر في النقد الأدبي والفكر الاجتماعي والكتابات الوطنية السياسية، فكان -في عقد الأربعينيات من القرن الماضي- علما من أعلام الفكر الداعي إلى التقدم والتغيير.
أضف تعليقك