وكأننا أمام فيلم خيالي، مستدعى من عصر ما قبل الدولة!
فالدولة المصرية الحالية، التي تأسست في سنة 1952، بعد حركة الضباط، التي كان يطلق عليها "الحركة المباركة"، لم تستطع حتى ساعته وتاريخه، أن تصنف "أشرف مروان"، سكرتير الرئيس للاتصالات الخارجية، في عهد السادات، وهل كان جاسوساً، عمل لصالح الأعداء، أم وطنياً عمل لصالح مصر، أم انتهازياً عمل جاسوساً مزدوجاً، ولاؤه لمن يدفع له!
لقد منحت الدولة المصرية، "صك البراءة" بحسب جريدة "المستقبل" اللبنانية، للمذكور، عندما شيعت جثمانه رسمياً بعد مقتله في لندن، وهو الشخص الذي أثيرت حوله الشبهات، ولم تجد المؤسسات الرسمية نفسها مطالبة بتوضيح حقيقته، قبل أن نقف على أنها كانت في الوضع مخدوعة، كما "جنابه" في الفيلم الشهير: "الزوج آخر من يعلم"، ولأنه لا يوجد في ملفاته ما يثبت أنه جاسوس، فقط قطعت السلطة قول كل خطيب بهذه الجنازة الرسمية، لموظف عظيم سابق في الدولة المصرية، انتقل من العمل في مكتب الرئيس، إلى العمل في السفارة المصرية بلندن!
وتأتي الريح دائماً بما لا تشتهي السفن، فقد صُفع المصريون على القفا، بصدور كتاب إسرائيلي مؤخرا، حمل عنوان "الملاك الجاسوس الذي أنقذ إسرائيل في حرب أكتوبر"، فصرنا في "حيص بيص"، فهذا الذي تزوج ابنة الرئيس جمال عبد الناصر، وعمل بجانب الرئيس السادات، هو جاسوس إسرائيلي تم زرعه في القصر الجمهوري، بينما نحن نستمتع بقراءة روايات صالح مرسي!
لا نعرف هل تم تجنيد أشرف مروان، في وجود "حماه"، أم أن التجنيد تم بعد ذلك؟، لكن يصدمك وأنت تتحدث عن دولة، وليس عن طابونة، أن الأجهزة الأمنية ما ظهر منها وما بطن، لا تعرف حقيقة وضعه، وقد قرأت مبكراً، قولاً منقولاً عن رئيس المخابرات المصرية "أمين هويدي"، أن الرئيس السادات أخبرهم أن "أشرف مروان" يعمل معه بشكل مباشر، ولا علاقة لجهاز المخابرات به؟.. فبدا "هويدي" كما لو كان يخلي مسؤوليته، ولم يعلم أنه يدين بذلك دولة العسكر بكل مكوناتها!
فهل حدث هذا فعلاً؟.. أم كان "هويدي" يبرئ نفسه من التقصير الوظيفي، ولنفرض أن هذا حدث فعلاً، فهل يعقل ألا يراقب في أدائه وسلوكه، بعيداً عن التدخل المباشر في عمله "المكلف به من قبل رئيس الجمهورية"، ولو من باب الفضول الأمني، ولحمايته من نفسه، من أن يلعب به الشيطان، أو يلعب هو بذيله، مع افتراض حسن النية؟!
إن العسكر، الذين يحكمون منذ الانقلاب الأول في يوليو 1952، لم يقيموا دولة المؤسسات، ولم ينجحوا في شيء قدر نجاحهم في تأسيس دولة الأجهزة الأمنية، التي أُطلقت يدها لتفعل ما تشاء، وتمارس نشاطها بعيداً عن القيود الأخلاقية، فهل يعقل أن يعيش "أشرف مروان" ويموت، دون أن نعرف حقيقته، حتى تأتينا الحقيقة صفعة مدوية، من جانب دولة الكيان الإسرائيلي؟!
هل كان الرئيس السادات يعلم حقيقة الفتى، وأنه استخدمه على طريقة القيادة العقيمة، التي تتعامل بمنطق الجاسوس الذي نعرفه أفضل من الجاسوس الذي لا نعرفه. وأنه استخدمه في تمرير رسائله للجانب الإسرائيلي، أم أن السادات كان كالزوج في الفيلم أعلاه؟!
في مذكرات بعض قيادات الإخوان، قرأت أن الإمام حسن البنا كان يعلم بأن مقربين منه على صلة بالأجهزة الأمنية، وكان يطلب عدم فضحهم، ويرفض النصيحة بطردهم باعتبار أن مخبراً معروفاً أفضل من مخبر مستتر، وذلك في التأكيد على حدة ذكاء المرشد المؤسس، ولعل سؤالاً يطرح نفسه، وكم من مخبر ترقى إلى سلطة اتخاذ القرار في الجماعة بعد وفاة من كان يعرف حقيقة المخبرين؟!
وهل تم تجنيد "أشرف الرئيس" في عهد الرئيس عبد الناصر؟!، وقد ورد أنه كان يرفض أن ترتبط ابنته به، لكنه رضخ في النهاية أمام إصرارها، أم أن عملية تجنيده تمت في عهد الرئيس السادات، وأن عدم موافقة عبد الناصر عليه عريسا لكريمته "منى"، كان من باب عدم الارتياح الشخصي، كما ورد على لسان بعض قيادات هذه المرحلة!
لست مشغولاً بأن أبريء أحداً، فما يشغلني أن الدولة المصرية، التي لها علم ونشيد، وأجهزة أمنية نعلمها وأخرى لا نعلمها، لم تستطع إلى الآن أن تسبر أغوار أشرف مروان: وطني أم خائن؟.. وإذا كان السادات قد مثل له حماية، فقد مات في سنة 1981، وانتهى الوضع الوظيفي لأشرف مروان، فهل يعقل أن الأجهزة الأمنية لم تساورها حوله الشكوك فتبحث خلفه، أو حتى تستدعيه لتفاتحه بشكوكها، لاسيما وأن كلاماً كثيراً قيل حول الرجل، كان يتردد في المنتديات السياسية، وورد اسمه في حملة صحفية كأحد الفاسدين الأوائل، الذي كان يتصرف على أنه أحد مراكز القوى في البلاد، وفي عهد السادات الذي أعلن أنه أسقط مراكز القوى، بسجنه لوزراء دولة عبد الناصر!
في كتابه "أسوار حول الحوار"، الصادر عن المكتب المصري الحديث، بعد وفاة الرئيس السادات، نقل مؤلفه الصحفي المرموق "جلال الحمامصي" فيه عناوين حملة له في جريدة "الأخبار" في سنة 1974، خاصة بالمذكور وزوجته السيدة منى عبد الناصر!
وقائع القضية التي نشرها الراحل "الحمامصي" ملخصها، أن أشرف مروان، أرسل كتاباً لوزير الزراعة واستصلاح الأراضي، بصفته سكرتير الرئيس للاتصالات الخارجية، وعلى الأوراق الرسمية للرئاسة، حيث "شعار الجمهورية" في الجانب الأيسر متمثلاً في النسر الشهير، وأحاط "مروان" الوزير بموافقة السيد رئيس الجمهورية على تخصيص أرض "روفائيل توربيل بن فيتا بن ابلي"، الموضوعة تحت الحراسة، للسيدة منى جمال عبد الناصر، والكائنة في طريق مصر - الإسكندرية الصحراوي، بناحية كرداسة بالجيزة، ومساحتها (23) فداناً، (3) قراريط، و(15) سهماً، وذلك بما عليها من مسكن ومرافق، وذلك بعد أن تدفع ثمنها!
وفي تعليق "الحمامصي" على الواقعة: "كان غريباً أن تتقدم السيدة منى جمال عبد الناصر، ابنة الزعيم الاشتراكي الذي عاش فقيراً ومات فقيراً لشراء قطعة من الأراضي القريبة من العاصمة، وفي فترة كانت أسعار الأراضي الزراعية قد بدأت تتجه إلى الارتفاع السريع وغير الطبيعي، ورغم أن الأرض صغيرة في مساحتها نسبياً إلا أنها ولقربها من العمران، تكاد أن تكون في قيمتها مساوية لضيعة من الضياع الكبرى والتي كان أصحابها يقلقون بال رائد الاشتراكية....ويدفعونه إلى اتخاذ الإجراءات تلو الإجراءات للاستيلاء على كل شبر يمتلكونه"!
ومن الواضح أن أرض "روفائيل" هذه كان قد جرى تأميمها، وليس هذا هو الموضوع، بل لا يشغلني الآن ما ذهب إليه الأستاذ "الحمامصي"، الذي أورد الواقعة في سياق التشكيك في الذمة المالية للرئيس عبد الناصر!
ما يعنيني هو أن مثل هذه الممارسات كانت تستدعي أن يوضع "أشرف مروان" تحت الميكروسكوب الأمني ولو سراً، ولو بعد رحيل السادات، بدلاً من أن تتحرك في "حيص بيص"، فيموت السادات وسره معه، وليس مؤكداً أن "مروان" قطع علاقته بإسرائيل بعد تركه الوظيفة الرسمية، واغتيال السادات، فمن حماه بعد ذلك؟!
إنها دولة الفرد التي أسسها العسكر فصارت تمثل خطراً كبيراً على الأمن القومي المصري، فلا نعلم ما إذا كان أشرف مروان عدواً ولا حبيباً، قبل أن يصفعنا الصهاينة على الوجه والقفا!
أضف تعليقك