• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانيتين

السمر مستمر من بعد صلاة العشاء ، والبهجة والود يسبحان في عمق الزنزانة ينال كل رجل من الرجال قسطه منهما ، والابتسامات الصافية المتبادلة ، تنشر أريجها في كل أرجاء الزنزانة ، فتتحول رائحة الزنزانة الرطبة ، وجدرانها العطنة ، وهوائها الذي أفسدته أنفاس المجرمين الخبيثة ، تتحول إلي روضة من رياض الجنة ، فلا صفاء يضاهي صفاء الابتسامات الطاهرة التي تعطر ليل الزنزانة الكئيب والطويل.

هناك إصرار من الرجال ، أن يبذل كل واحد فيهم طاقته ، ليُسعد من حوله ، فهذا يقود اللعب ، وهذا يُعد لكل واحد ما يطلبه من مشروب ، وهذا يلقي بالنكات العفيفة التي تنتزع الضحكة انتزاعا من النفوس التي انزوت علي نفسها وخرجت بفكرها وعقلها إلي ما هو خارج حدود القضبان ، وتاهت في دروب الفكر ، وتعلقت بأشخاص قد حرمت من رؤيتهم اللهم إلا دقائق معدودة كل أسبوع لذوي الملابس البيضاء أو كل أسبوعين لمن تلونت ملابسهم ، فتراه معك ، ولكن عقله وقلبه خارج حدود المكان.

ويحاول أن يتحد جسده القابع في ظلمات الزنزانة بروحه وعقله وقلبه السابحون خارج الحدود ، فتسقط عبراته الساخنة لتنبهه بقسوة أن ما يصبو إليه مُحال ، فتعود روحه مصطحبة معها عقله وقلبه تأسرهما حرارة العبرات ، وينزووا جميعا داخل صدره ويحبس معهم ضحكاته ، التي تُنتزع بما ينثره الرجال من نكات عفيفة ، فتخرج ضحكته من صدره فرحة سعيدة ، كفرحة معتقل عاد إلي أهله بعد يأس من اللقاء.

وهذا يُعد طعاما ، وسعادته تزيد بقدر ما يطلب منه من طلبات من بقية الرجال ، لا سلطان داخل الزنزانة غير سلطان الحب والود وسلطان وحدة وشرف القضية ، هذا السلطان داخل الزانزانة يضاهي سلطان داود وسليمان في حكمهما ، فسليماننا قد يكون أصغرنا سنا ، وبسلطان الحب يسيطر علي قلوبنا ويحكم تصرفاتنا ويفصل في ما قد يجد من لمم بين رعيته.

وهذا يقص علينا تاريخ كفاحه ، فتشتعل نفوس شبابنا حماسة ، يهون الأسر وتتلاشي الآلام ، وتتحول أنات القلوب وصوتها الخافت الذي يدوي داخل النفس إحساسا بمرارة الظلم وقسوة قلب السجان ، إلي ضحكات ، وينتهي السمر ، وتميل النفس إلي الراحة ، ويحتاج الجسد إلي الدعة والقلب إلي النسيان ، يلف الزنزانة صمت عميق بعد ضجيج وضحكات تقهر نفس السجان الذي لا يستطيع السيطرة علي حقده وغله فيخرجه في سلسلة من الطَرْقات علي باب أصم يشبه قلبه ، ننتبه إليها تارة وتارة لا نعبء بها.

بعد كل هذا الضجيج تسكن النفوس في أجسادها ، وترقد الأجساد علي أرضية باردة لا يفصلها عنا إلا خليط من شَعر وألياف وخيوط تجمعهم بلونٍ لو اختار الشيطان عذابا لبني الإنسان فسيشتقه من تلك الألوان ، نجتهد لتغير هويتها بألوان نطلبها ، تدخل حينا وأحيانا أخري يحجبها حقد السجان.

وأخيرا ننام ، وبعد قيام واستمتاع بأزيز القراء لآي القرآن ، تصل محطتنا إلي الفجر ونصلي ونتلو الأذكار ، ثم ننام ، ساعات هي التي يمكنك فيها أن تستمع بقسط متواصل من النوم تحتاجه أجسادنا ، وما أروع تلكم الساعات ، تكون خالية من أنفاس تفسد الهواء طوال الليل ، وفي هذا الصمت وهذا السكون ، تسمع صوت خطوات سريعة ومتلاحقة وكثيفة لجنود ومخبرين وضباط حادون في ملامحهم ، جادون في مشيتهم ، فكأنهم ظفروا بغنيمة في زمن القحط ستغنيهم ، ويفتح أشقاهم باب الزنزانة ، والكل نيام ، وينادي أخبثهم بصوت أشبه بخوار الثيران ، تفتيش يا أسيادنا ، كله يقوم ، اصحي يا أستاذ

#السيسي_راعي_التعذيب

أضف تعليقك