الحرب سجال، ومواجهة الانقلاب أيضا جولات، وموجات، بين مد وجزر، والمعركة لا تنتهي إلا بإعلان أحد أطرافها الاستسلام، ورفع الراية البيضاء، وهو مالم يحدث حتى هذه اللحظة في مصر رغم انتفاش الانقلاب، ورغم إحكام قبضته على مصادر القوة والبطش واستخدامها بأقصى وأقسى درجة ضد مناوئيه.
بالأمس أصدرت محكمة ناجي شحاتة أحكاما جائرة جديدة بإحالة أوراق 11 مصريا للمفتي، لم يكن ذلك هو الحكم الأول ولن يكون الأخير لو استمر هذا النظام في موقعه، تستهدف هذه الأحكام مع غيرها من القرارات القمعية مثل مصادرة الأموال والتحفظ على الشركات والتي كان آخرها قائمة ضمت 150 شركة أمس أيضا، كسر ارادة المنهاضين للانقلاب، ودفعهم للاستسلام ورفع الراية البيضاء، لكن الذين كانوا مشاريع شهداء بالفعل، والذين رأوا الموت بأعينهم، وحملوا الشهداء على أكتافهم، والذين احتملوا كل صنوف التعذيب في السجون ولم يستسلموا من قبل لن ينحنوا أو ينكسروا أمام هذه الإجراءات الجديدة التي أصبحت بالنسبة لهم أمورا روتينية اعتادوا التعامل معها، ولن تثنيهم عن إكمال طريقهم نحو حرية كاملة لهم ولوطنهم وشعبهم.
رغم الآلام الكبيرة التي يعانيها مناهضو الانقلاب وأسرهم، من قتل وسجن وتعذيب وملاحقة فإن السيسي ورجاله "يألمون كما تألمون"، نرى تداعيات هذا الألم في عبارات متشنجة أو قرارات عصبية، أو بيانات مرتجفة، أو إجراءات تأمين قاسية تحرم صاحبها من النوم، وتحرمه من متعه الحياة الطبيعية، وتجعل مسكنه سرا حربيا، لأنه لا يقيم في مكان واحد طوال الوقت، نراه يلهث هنا وهناك لاستجداء الرضا والقبول، ويبعثر المال على هذا وذاك عبر عقود مليارية لا يحتملها اقتصاد منهك، وتتحملها الأجيال المقبلة، بينما يتضور الشعب جوعا وحرمانا، ويصرخ من الغلاء والبلاء دون مجيب.
قليلة هي نتائج الحراك ضد الانقلاب في الداخل والخارج حتى الآن، لكن المهم أنها متواصلة، ولو في بضع عشرات يتظاهرون في شوارع جانبية، أو في بضع تحركات حقوقية أو قانونية، أو في بضع برامج تليفزيونية، أو في بضع اتصالات سياسية، هي إذن قليلة ولكنها متواصلة رغم مرور 4 سنوات وهي فترة كانت كافية لزراعة اليأس والإحباط تماما لكن ذلك لم يحدث كما توقع النظام.
ولأننا نستظل بظلال دورة الانعقاد "السبتمبرية" لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة فلنتحدث عن أحد جوانب المقاومة في الملف الحقوقي والقانوني، وقد أشبعهما البعض نقدا وتجريحا، واتهاما بالتقصير، ولا شك أن التقصير حاصل بالفعل، فالانتهاكات التي تشهدها مصر من قتل وتعذيب وإخفاء فسري وملاحقة ومصادرة ومطاردة كانت بحاجة إلى عشرات الأضعاف من الجهود الحقوقية والقانونية لفضحها، ومحاصرة مرتكبيها، ومحاكمتهم، وقد شهد هذا الملف (الحقوقي والقانوني) تخبطا في إدارته عقب الانقلاب ما تسبب في ضعف حصيلته، ومع ذلك يمكننا أن نرصد بعض النجاحات الجزئية التي تحتاج إلى استكمال، وتعزيز، وحتى يمكنها ذلك فإنها تحتاج إلى تمويل وتطوير وتدريب الخ.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن أكثر الصعوبات التي واجهها النظام كانت في الملف الحقوقي، إذ واجه انتقادات حادة من العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، وبعض مؤسسات الأمم المتحدة، وخلال الأسبوع الأخير فقط صدرت 3 تقارير دولية، اثنان منها يركزان على التعذيب الممنهج ويحملان السلطة المسئولية ، ومن ذلك قيام ضباط جيش بممارسة التعذيب (الأول لمنظمة هيومان رايتس ووتش والثاني للجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة)، والثالث حول حرية الإعلام، وقد أصدرته منظمة مراسلون بلا حدود)، وفضحت فيه هيمنة أجهزة المخابرات على وسائل الإعلام وتملكها بشكل مباشر،، وقد سبقها جميعا عدة تقارير على مدار الأعوام الأربع الماضية بدءا من تقرير هيومان رايتس ووتش الخاص بمذبحة رابعة والمعنون (حسب الخطة) والذي حدد الاتهامات والمتهمين بدقة، وذكر أسماء لعشرة منهم على رأسهم السيسي ووزير الداخلية الأسبق محمد إبراهيم وبعض القادة العسكريين والشرطيين.
قد لا يدرك البعض أن المنظمات التي أصدرت هذه التقارير اعتمدت على معلومات وفرتها لها مؤسسات حقوقية مصرية مهاجرة، ونشطاء حقوقيون مصريون، وضحايا أيضا، وقد تسببت هذه التقارير مؤخرا في حرمان النظام المصري من قسط كبير من المساعدات الأمريكية (337 مليون دولار)، وأوقفت بالتالي خطة تعديل الدستور لتمديد فترة السيسي، والغريب أن هذا القرار الأمريكي صدر من رئيس أعلن صراحة أن "كيمياء خاصة" تجمعه مع المشير السيسي، ومع ذلك لم تصمد هذه الكيمياء أمام تقارير الانتهاكات، والأهم من القرار الأمريكي بقطع تلك المساعدات هو الرسائل التي يفهما جيدا المستثمرون والسياح الأجانب من هذه التقارير، ويتخذون بناء عليها قراراتهم بتجنب السياحة أو الاستثمار في مصر، ما يعني مزيدا من التعثر الاقتصادي، وزيادة البطالة، واختفاء العملة الصعبة ما يزيد الضغوط على الجنيه المصري، وبالتالي زيادة الأسعار على المواطن البسيط.
ملف الملاحقة القانونية لرموز النظام يعاني بدوره عسرا ماليا كبيرا، فرفع الدعاوى أمام محاكم دولية صاحبة ولاية يحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة سواء كرسوم لتسجيل القضايا، أو كأتعاب للمحامين الدوليين، أو لبقية إجراءات واحتياجات التقاضي، كما أن المشكلة الأخرى التي تواجه هذا الملف هي تواطؤ حكومات بعض الدول مع المتهمين من رجال السيسي، الذين تمنحهم حصانات أو حماية خاصة أثناء زياراتهم لها لتجنيبهم الملاحقة القضائية كما حدث من قبل مع محمود حجازي رئيس الأركان أثناء زيارته لبريطانيا (أكتوبر 2015)، وهشام بركات النائب العام السابق أثناء وزيارته لفرنسا (مارس 2015)، ولعلنا لا ننسى تراجع السيسي عن زيارة جنوب أفريقيا في يناير 2015 للمشاركة في القمة الأفريقية خوفا من إمكانية اعتقاله عقب رفع دعوى جنائية ضد في جوهانسبرج تتهمه بارتكاب جرائم حرب وإبادة إنسانية استنادا لتصديق جنوب أفريقيا على اتفاقية روما المؤسسة لمحكمة الجنايات الدولية، ويظل هذا الملف أحد الملفات التي يمكن أن تسجل نجاحات مهمة حال توفر التمويل اللازم له.
أضف تعليقك