• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "توشك القرى أن تخرب وهي عامرة، قيل: وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارُها أبرارَها وساد القبيلةَ منافقوها". وصدق ربي إذ يقول {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها}.

أسفًا كأسفِ يعقوب على فراق يوسف، أنعي هذه الأمة التي تلتهم أسودَها فيطمع فيها كلابها، تُدني المُريب وتُقصي الأمين، فللرويبضات الجوائز والمنابر، وللمصلحين القيد والقضبان.

أبكي على زمان كان الأمراء يُجلّون الدعاة والمصلحين ويتخذون منهم بطانة وجُلوسا، ويروْن فيهم ذُخرا وسندا.

لمّا أنكر السلطان على الوزير ( نظام الملك ) صرْف الأموال الكثيرة على طلبة العلم، قال له الوزير: " أقمتُ بها جُندا لا تُردّ سهامهم " فاستصوب السلطان فعله وأعانه عليه.

وحينما استعصى على القائد قتيبة بن مسلم فتْح كابول، سأل عن محمد بن واسع ، العالم الزاهد، فأخبروه أنه يرفع أصبعه إلى السماء داعيا، فقال: لأصبع محمد بن واسع أحب إليّ من ألف سيف شهير.

ثم جاء زمان تُكمّم فيه أفواه المصلحين، وتُفتح المنابر لكل ناعِق يبث السموم، فصارت كلمة حق تصدر عن داعية أو مصلح، جريمة وخيانة.

مسلسل اعتقال العلماء لا تنتهي حلقاته، كان آخر ما طالعنا منها ، إلقاء القبض على الدكتور سلمان العودة والدكتور عوض القرني وغيرهما، بجريمة الصمت.

نعم إنها جريمة الصمت، فما من تفسير تهضمه العقول لتلك الاعتقالات سوى أن هؤلاء الدعاة لم يركبوا موجة الهجوم على قطر وتأييد حصارها.

ومن يستطيع أن يلومهم على رغبتهم في نبذ الشقاق والخلاف بين الأشقاء؟ لذا آثروا الصمت على مخالفة المبادئ والقناعات، فاعتزلوا الفتنة لكنهم لم يسلموا من التنكيل.

هل أصبح البوق الإماراتي وسيم يوسف مرجعا في تصنيف الدعاة ، فتتجه السلطات السعودية بالملاحقة والاعتقال الى كلّ من يشير إليهم المذكور؟

هل نتحدث عن الرؤى الاقتصادية والتطوير لمحاذاة الغرب في الوقت الذي نهدر فيه الحريات ونُخوّن المخالف؟

طالعتُ تغريدة لأحد الكتاب الليبراليين السعوديين في سياق تعليقه على حملة الاعتقالات، وفيها يدعو الشعب إلى تأييد كافة الإجراءات التي يتخذها أمن الدولة، مؤكدا أن هذا التأييد الشامل هو الدليل على محبة المملكة.

انظروا إلى أدعياء الحرية، يُعلّق وصف الوطنية ومحبة الوطن على تأييد كل الإجراءات التي تُتّخذ ضد هؤلاء الدعاة، فمن يخالف الرأي فليس مُحبا للسعودية، فأين ليبراليتك يا هذا؟ أين أحاديثكم عن حرية الرأي؟ عن الرأي والرأي الآخر، عن حرية الكلمة؟!!

وآخرون ساروا في ركاب الفتنة ينفخون فيها، ويُبرِّرون لها بتأصيل شرعي مزعوم، فيستدل بعضهم على جواز الفرح والبشر بما يحدث من أذى لأهل البدع، بمقولة للإمام أحمد عندما سُئِل: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد ، عليه في ذلك إثم؟ فأجاب: ومن لا يفرح بهذا؟

فسبحان الله العظيم، يساوون بين أحمد بن أبي دؤاد رأس المعتزلة والجهمية المخالفين لمنهج أهل السنة في أصول الدين، وبين دعاة وسطيين من أهل السنة، انتفع الناس بجهودهم، فأين أصحاب البدع المغلظة في الاعتقاد، مِمَّن استقى العقيدة الصافية من خيرة العلماء المُبلّغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الميامين.

يا قادة أرض الحرمين، والله إن بلادكم لأحب البلاد إلينا، وعلِم الله أني أَحرصُ على ذلك الوطن من بعض من يعيشون على أرضه ويبغونها عوجا، كفاكم خسارة الأوفياء، خسرتم الصديق في الداخل والخارج، أغراكم شيطان الخليج بأن قطر عدوكم الذي يجب استئصاله، فخسرتم من كانت موافقته لكم أكثر بكثير مما يخالفكم فيه، وخسرتم معه من تجاوز عن خلافاته معكم، وسكت عن بعض مثالبكم دعما لكم في مواجهة العربدة الإيرانية، لأنه واجب الوقت، احذروا أن يعاديكم كل صديق وتُفتح الملفات المُهملة من كل صوب.

وخسرتم دعاة صادقين كانت جهودهم الإصلاحية من دعوة وتنمية ومعالجة لقضايا المجتمع، صيانة لوطنكم من تغلغل الإرهاب والتطرف، ومتى أقصيتم المعتدلين الوسطيين، فانتظروا أن يحلَّ مكانهم أهل الغلو والتطرف.

ولا يخدعنكم التفاف زمرة من العلماء الرسميين حولكم، فمن يُظهر لكم التوافق والتأييد في كل حال وآن مهما كانت المعطيات، دون أن يُقدم لكم النصح بأمانة، ومن غير إنكار أخطائكم، فهؤلاء سيخذلونكم إذا دارت الدائرة، وسيقفون مع خصومكم ذات الموقف باستخدام القواعد ذاتها.

يا قادة السعودية أفيقوا وميزوا العدو من الصديق، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا، التمسوا العزة في التنازع إلى الله ورسوله بصدق وحق لا بالدعايات واستصدار فتاوى المرتزقة الداعمة للأهواء، التمسوها في التلاحم الداخلي، أفرجوا عن الدعاة المصلحين الذين لم يحملوا ضدكم سلاحا حتى وإن صدعوا بما لا ترغبون به، فأمثال هؤلاء هم صمام الأمان من الإرهاب والعنف والتطرف.

إنه لمن دواعي الحزن والأسى أن تكون مواجهة المشروع الإيراني الذي حشّدتُم له الأمة، مجرد دعايات سياسية، تتهاوى عندما تُقربون حلفاءها الأصليين، وتُشاقُّون مَن أيَّدكم في وقف توسعاتها بالمال والرجال والسلاح.

أقولها بصراحة دون مواربة، إن استمرار حملات الاعتقالات التي تنال من الدعاة والمصلحين تفتيت للبيت السعودي، حيث تؤدي إلى إثارة الرأي العام، بما لهؤلاء الدعاة من شرائح واسعة مؤيدة لهم، كما أنه يُعزّز من تسلُّط أذناب الغرب داخل المملكة، وهو ما يُهدّد الهوية ويُنذر بسحب القيادة الدينية للعالم الإسلامي من أرض الحرمين.

إنه لمن العار أن يتم اعتقال العودة والقرني والعُمري وغيرهم من الدعاة في أوطانهم، في الوقت الذي أعلن فيه (الانتربول) شطب الشيخ يوسف القرضاوي وغيره من معارضي الانقلاب في مصر من قائمة المطلوبين.

إنها نار ينفث فيها تيار مزيج من الليبرالية والجامية ومحترفي التصنيف، على قاعدة "من ليس معنا فهو ضدنا" التي أرساها بوش الإبن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فلا هُم بَنوا تقويم الرجال على أسس واضحة، ولا هُم اتّبعوا نهج أهل العقيدة الصافية في الجرح والتعديل ، ولا هُم خدموا أوطانهم إلا بما يتوافق مع الأهواء والميول.

نعلم أن (دولاب) التُّهم جاهز لوصف هؤلاء الدعاة المعتقلين بأنهم متواطئون مع قطر ضد بلدهم، ويدعمون الفكر الإخواني الذي يضر بأمن المملكة، ونعلم كذلك أن الكثيرين لديهم القابلية للتصديق، فعلى ذلك تمت برمجتهم بمصطلح ولي الأمر الشرعي، والذي أصبح قبوله والعمل بمقتضاه أمرا مُطلقا بعيدا عن معايير الصواب والخطأ.

ما يحدث اليوم من ملاحقة الدعاة المستقلين لا أستطيع النظر إليه بمعزل عن التوجُّهات الخليجية الحالية والتحركات الإماراتية خاصة، والتي تُبشّر بشرق أوسط جديد، وتريد أن تجعل من السعودية رأس الحربة في هذا المشروع، الذي يأخذ صبغة علمانية ويصب في المصالح الأمريكية الصهيونية، وعلى هذا الطريق يتم إقصاء وتحجيم وتصفية شخصيات ورموز وجماعات ودول.

وإني على يقين بإهدار دمائي الفكرية بعد هذا المقال، وسأكون غرضا لمنجنيق السباب والشتم والقذف، غير أنها كلمة حق أردت البوْح بها، مع الاحتفاظ بكل مودة ورغبة في الخير للسعودية وأهلها، فلا تلازُم بين النقد والكراهية، وتلك مسألة لا يُدركها إلا من صَفَتْ نفسه، واتّسعت مداركه، وقاد زِمام هواه.

أضف تعليقك