يقولون في المثل "تمخض الجبل فولد فأرا" للتدليل على النتيجة الهزيلة لجهد ضخم، وهو ما يصدق تماما على خطاب السيسي في الدورة 72 للأمم المتحدة يوم أمس، إذ سبق هذا الخطاب تحضيرات ضخمة، قبل أن يتحرك السيسي من القاهرة، تصحبه كالعادة "زفة" من الإعلاميين والفنانين إلى نيويورك، وكأنه لا يزال قاصرا يحتاج إلى رعاية. كما سبقه تسريبات من هذه الوفود الإعلامية المصاحبة بأن الخطاب لن يكون تقليديا، وأنه سيكون حديث الأمم المتحدة والعالم، وأنه سيطرح فيه مبادرة تتحدث بها الآفاق، وظللنا ننتظر هذه المبادرة حتى نهاية الخطاب فلم نجد سوى "فأر". مجرد خطاب تقليدي رتيب، وحتى الفقرة التي خرج فيها عن النص والتي كنا نتوقع أن يعلن فيها عن تلك المبادرة المتوقعة لم تحمل مبادرة بالمعنى المفهوم بل كانت مجرد نداء للصهاينة وللعرب والأمريكان لالتقاط الفرصة والاستعداد لقبول التعايش مع الآخر في أمان وسلام، وتحقيق الاستقرار والأمن للجميع مذكرا بمعاهدة كامب ديفيد التي وصفها بالتجربة الرائعة، ومحذرا من أن فرصة السلام التي يدعو إليها قد لا تتكرر مرة أخرى دون أن يقدم طرحا محددا.
أمن المواطن الإسرائيلي
بدا السيسي في خطابه أمام قاعة شبه فارغة أكثر حرصا على أمن وسلامة المواطن الإسرائيلي، ولم يخنه لسانه الذي أظهر مكنون نفسه حين كرر الجملة بينما كان يقصد في الثانية المواطن الفلسطيني، كان السيسي خارجا لتوه من لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو اللقاء الذي ظهر خلاله غارقا في الضحك، ما يشي بأن شيئا ما أسعده وأوصله لتلك النشوة خلال اللقاء، ولا يحتاج الأمر إلى كثير اجتهاد، فالسيسي يدرك أن كفيله السياسي الأول هو "نتنياهو" الذي وضع كل إمكانات كيانه لدعم انقلابه منذ اللحظات الأولى، وهو الذي شد الرحال إلى واشنطن لتسويقه، وحث إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على عدم قطع المعونات عنه، وهو ما كشفه الإعلامي توفيق عكاشة من قبل مدعيا أنه هو من نصح إدارة السيسي بطلب الدعم من إسرائيل ( بالمناسبة حاول عكاشة نفسه أن يكرر التجربة فاستضاف السفير الإسرائيلي في بيته ولكنه دفع ثمنا غاليا تمثل في إغلاق قناته وإصدار حكم بحبسه في اتهامات جنائية أخرى، وكانت الرسالة أن عاشق إسرائيل الجديد لا يقبل منافسا على "حجر نتنياهو").
لم يكن لقاء السيسي مع نتنياهو هو الأول فقد سبقه لقاءان سريان كشفت عنهما الصحافة الإسرائيلية ولم ينكرهما نظام السيسي، أحدهما في العقبة في فبراير/شباط 2016 بحضور الملك الأردني عبد الله بن الحسين ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وكان الثاني في قصر الاتحادية بعد ذلك بشهرين.
صفقة سياسية كبيرة
كان السيسي في لقاءاته السرية السابقة معنيا بترتيب صفقة سياسية كبيرة وهي ما عرفت بصفقة القرن، وكان جانب مهم من تلك الترتيبات هي وساطة السيسي لتشكيل حكومة إسرائيلية ائتلافية قادرة على الدخول في هذه الصفقة إلى جواره، مع ضمانه لدعم سعودي إماراتي لها، وقد شارك في لقائي العقبة والاتحادية إلى جانب نتنياهو أيضا رئيس المعارضة الإسرائيلية يتسحاق هرتسوغ بهدف ضم حزب العمل المعارض للحكومة الإسرائيلية، لكن جهود السيسي وغيره في تشكيل حكومة إسرائيلية متماسكة قادرة على التعاون معه لإنجاز صفقة القرن باءت بالفشل حتى الآن، ومع ذلك يكرر السيسي نداءه للإسرائيليين بالوقوف خلف قيادتهم في عملية السلام المرتقبة، واعدا إياهم بأنه وحكومته والمجتمع الدولي سيكونون في ظهرهم لإتمام هذه العملية.
هذه التحركات السرية والعلنية للسيسي لإنهاء القضية الفلسطينية لا تستهدف إحلال السلام العادل وإقامة دولة فلسطينية، بل تستهدف تحقيق الأمن للإسرائيليين كما عبر عن ذلك في كلمته أمام الأمم المتحدة، وذلك ثمنا لبقائه في السلطة لأطول فترة ممكنة، وقد نجح السيسي على مدار السنوات الأربع الماضية في تحقيق قدر كبير من هذا الأمن للإسرائيلييين عبر الحدود المصرية، حيث حفر حاجزا مائيا بطول الحدود ثم بنى سورا خرسانيا، ثم أقام منطقة عازلة وهدم بيوت أهل سيناء وقام بتهجيرهم، ومنع أي هجمات ضد الإسرائيليين تنطلق من سيناء في الوقت الذي عجز عن منع هجمات داعش على قوات الجيش المصري في سيناء ذاتها.
يستعيد السيسي سيرة أسلافه العسكريين الذين جعلوا من القضية الفلسطينية مصدر شرعيتهم مع افتقادهم للشرعية الشعبية، ويمكننا بالتالي أن نتنبأ بمصير مشابه لمصير هذه القضية مع أسلافه، إذ لا مصلحة حقيقية لأي منهم في إنهاء الصراع بإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية كما يقولون، لأن إنهاء هذا الصراع سيعني نهاية لحكمه، مع نهاية دوره، ولكن السيسي كأسلافه سيظل حريصا دوما على الإمساك بملف القضية الفلسطينية، ومن هنا كانت لقاءاته السرية مع نتنياهو وغيره من القادة الصهاينة، ولقاءات مخابراته مع حركة حماس التي صنفتها محاكمه "إرهابية " من قبل، وحاكمت الرئيس المدني محمد مرسي بتهمة التخابر معها، ولقاءات أخرى مع قيادات فتح بجناحيها( عباس ودحلان).
وحدة سوريا
بخلاف حديثه عن القضية الفلسطينية والتمهيد لصفقة القرن، حفل خطاب السيسي بالكثير من الأقوال التي تناقض الأفعال، ففيما يخص الوضع في سوريا تحدث حديثا مكررا عن الحفاظ على وحدة سوريا، لكنه دعا إلى إشراك كل أطياف المجتمع السوري في صناعة مستقبل وطنه، بينما يفعل السيسي عكس ذلك في مصر. وفي الأزمة الليبية زعم السيسي أنه لا حل إلا بالتسوية السياسية مؤكدا دعمه لاتفاق الصخيرات الذي أنتج حكومة وفاق وطني، بينما يساند السيسي عمليا وبكل قوة القائد المنشق خليفة حفتر الرافض لهذا الاتفاق، والساعي بكل قوة لتخريبه، ويتدخل السيسي في شئون الدولة الليبية رغم أنه في كلمته ذاتها أكد أن "احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، هى الطريق الوحيد لتسوية الخلافات في عالمنا".
ورغم الحديث "العنتري" عن مواجهة الإرهاب والدول الداعمة له، إلا أن السيسي تحدث حديثا ناعما عن مشكلة سد النهضة، منوها بمبادرة حوض النيل عام 1999، والاتفاق الثلاثي الذي وقعه مع رئيس وزراء إثيوبيا ورئيس السودان، والذي كال له المديح في خطابه ونسي أنه أقر في هذا الاتفاق بحق إثيوبيا في بناء السد، ودعا لما أسماه" تجنب ضياع فرصة تقديم نموذج ناجح لإدارة العلاقة بين ثلاث دول شقيقة من دول حوض النيل".
لم يكد السيسي ينتهي من خطابه حتى خرجت أبواقه لتصف الخطاب بـ"التاريخي" كالعادة، وحين تسألهم ما الجديد في الخطاب، يزعمون أنه جديد كليا، ويرددون كالببغاوات ما يزعمون أنها كلمات قاطعة جامعة مانعة من الزعيم المشير، وقديما قال أحمد شوقي في مسرحية " مصرع كليوباترا " : اسمع الشعب ديون كيف يوحون إليه ... ملأ الجو هتافاً بحياتي قاتليه ... أثّر البهتان فيه وانطلى الزور عليه ... يا له من ببغاء عقله في أذنيه !!
أضف تعليقك